مطلوب مسؤول كبير
اخبار البلد_ كانت الأصوات المنبعثة من ذلك الركن في أحد المقاهي قد بدأت تتعالى لافتةً اهتمام الرواد من مدخني الشيشة ولاعبي الطرنيب المنتشرين، إلى الحديث الذي بدا أنه ازداد سخونةًً بين جليسين، سرعان ما اتضحت تفاصيله للجوار، رغم تداخل أصوات موسيقى خلفية، وتعليق كروي قادم من الشاشات المنتشرة.
طرفا الحوار شابان في منتصف العمر.
الأول: مَنْ إذن تعتقد أنه يصلح للمرحلة "الجاي"؟!
الثاني: هُوَ ما فيش بالبلد غير هذول؟!
الأول باستغرابٍ وبطريقة القذافي: يا سلام، أعطيني أربعة أسماء في كل البلد بينفعوا في هالظروف الصعبة.
تواصل الحوار من دون توقف، وباتت القصة معلومة للجميع. الأول يرى أن البلد برُمتها باتت عاجزة عن إنجاب أسماء "كبيرة" تقدر على مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، على قاعدة "عِِدّي رجالك عِِدّي" التي قالها عدة مرات كدلالة على صواب رأيه. أما الثاني فله رأي آخر، إنه ببساطة يرى أن الميدان أكبر بكثير من اختزاله بعدة أسماء وأشخاص لا يتعدون أصابع اليد الواحدة.
المشهد الدرامي بامتياز يستند، كما يقولون في السينما، إلى قصة حقيقية، حصلت في ذلك المقهى، وتحصل كل يوم في كل المقاهي والصالونات، حتى تلك الخاصة بالحلاقة، وطبعاً في الجلسات المُملة التي تَمرُ دقائقها ببطء، قبيل مأدبة غداء.
من فضائل هذا المشهد المتكرر كل يوم أنه يُحفز على طرح أسئلة "كبيرة" أيضاً بشأن تلك الأسماء الكبيرة، وكم تكررت في غير موقع وعلى كل منصب وكأنها تتناوب في مجلس حكم جماعي. ورغم كثرة الأسماء التي حصلت على لقب معالي في الأردن، إلا أن أسماءً بعينها تبقى داخل اللعبة مرة في موقع الدفاع وأُخرى في الهجوم وثالثة كظهيرٍ أيمن أو أيسر، ولعلها أيضاً إن امتلأت المواقع لا تمانع في حراسة المرمى. هي ببساطة كما قال صاحبنا الثاني في المقهى، اختزال شديد للوطن بأسماء وشخوص لا نرى غيرها، أو لعلنا ضحيةَ لعبةٍ لا تُريدنا إلا أن نراها هيَ.. طوال الوقت، وفي كل مكان، بطريقة تبادل الأدوار في لعبة الكراسي الموسيقية الشهيرة. لكن اللعبة بالنسبة لهؤلاء القلة، لم تكن لتؤدى على إيقاعات موسيقية، بل لعل التجربة أثبتت أنها تأخذ إيقاعات أُخرى غير موسيقية أبداً أو لعلها صامتة، كإيقاعات الترويج الممجوج لتلك الشخوص، في مقابل لعبة اغتيال شخوص أُخرى، لا تريدنا اللعبة أن نراها أبداً، وتحفزنا لأن نبقى نحن في حالة جهل مطبق!
التجربة العملية تقول لنا أن أحد الأسماء التي تناوبت على إدارة مؤسسة حكومية كانت لأحد الأشخاص الذين تناوبوا على ثمانية مناصب مهمة خلال عشر سنوات، وبعد أن تستقر بصديقنا الأحوال في لعبة الكراسي والموسيقى الصامتة بأشهر، كنا نسمع ذات العبارة من كل المسؤولين العارفين ببواطن القرارات والمستقرين في وجدان التخطيط الحكومي آنذاك.. "نعم فلان لازم يترك الإدارة.. لكن أين يذهب؟.. الحكومة ستقرر نقله عندما تجد له مكاناً آخر"! كانت العبارة المستفزة، تثير في نفسي سؤالاً كبيراً وطبيعياً (على الأقل في كل العالم): ماذا لو غادر من دون أن يجدوا له منصباً آخر، هل ستخرج المظاهرات المطالبة بإيجاد منصب للمسؤول الكبير؟!
لسان حال البلد يقول أن ثمة ماكينات بدائية تقوم بذات الترويج البدائي لصناعة المسؤولين والنجوم الحكوميين، فتبدأ ببث أن فلان القادم إلى الوزارة هو أحد جهابذة عصره في مجاله وتخصصه، وما يلبث أن يغادر حتى نكتشف أن النجم لم يعرف يوماً في مجاله ولا تخصصه (إن كانت تلك الوزارة في صُلب تخصصه أصلاً). أعلموني بالله عليكم، أين يمكن أن نرى موظفاً كبيراً يضطلع بملف أو منصب أو وزارة ثم يثبت بعد عدة أشهر فشلا أو جموداً من دون حراك خوفاً من المساءلة، على قاعدة من عمل كثيراً أخطأ كثيراً.. ونظرية اخفض رأسك حتى لا يطالك "الطخ".. ثم عند الحساب يُكرم الموظف الكبير فيمنح منصباً أكبر وأهم وأكثر حساسية، وقابلا لفشلٍ أكبر ورؤوس منخفضة أكثر؟
الحديث بين الرجلين في ذلك المقهى الذي ضج بالزبائن ولاعبي الطرنيب، لم ينته بعد، بل إن الحوار الذي بات مشتعلاً تزيده سخونة بعضُ عبارات الاستهزاء على شاكلة "شو رأيك ننزل إعلان بالجريدة نطلب مسؤولا من بره؟"، دفع بعض المحيطين من رواد المقهى إلى الاستماع ليستمتع بجرأة حوارٍ ما يزال متواصلا حتى لحظة كتابة هذا المقال.