عيش سريري
اخبار البلد _ بعيدا عن لغة الأرقام الجوفاء، والتقارير المدبجة بحبر لا تفوح منه رائحة الوجع، ثمة في مجتمعنا، بشر يوشكون على استنفاد آخر قطرات الحياة من أرواحهم، جرّاء وصولها إلى مرحلة الفقر الذي حطم كل "خطوط" التصنيفات الرسمية، من مدقع ومطلق.. وصولا إلى (عيش سريري).
ما حفزني على استحضار هذا النمط من الحياة؛ الموضوع الذي نشرته "الغد" الخميس الماضي، عن قصة أم محمد بدوي التي تعيش مع أبنائها في السلط داخل "مكرهة صحية"، لا زاد لهم غير فتات خبز لا يسمن ولا يغني من جوع معدهم الصغيرة، التي لا تطمح إلى أكثر من بضع لقيمات تقيم أودها، من دون جدوى.
بدأت حكاية أم محمد حين توفي زوجها، قبل سنوات، فوجدت نفسها وحيدة في مواجهة حياة قاسية ومضنية بفقرها وذلها؛ تعيل أبناءها الثلاثة ووالدتها بدخل لا يتعدى ستين ديناراً شهرياً.
عائلة لا تملك رقماً وطنياً، وبالتالي محرومة من أبسط الحقوق التي تحميها وتؤمّن لها ولو جزءا من المستقبل الذي يبدو بعيونها مظلما ومحدد المصير في ظل معطيات الراهن الذي يعيشونه.
فقر تعاقبت عليه عقود عاشتها أسرة كانت قد فقدت الأمل بحياة مريحة، اعتادوا القلة والجوع الذي لا يسده الخبز الحاف، غير أن ما قلص من مأساة هذه العائلة، ردود الأفعال من أهل الخير الذين أبدوا الاستعداد للمساعدة بأقصى إمكاناتهم بعد نشر القصة.
لم تتوقف الاتصالات من عائلات وأفراد وشركات، وتوافد العديد من الناس على مقر الصحيفة؛ جميعهم تكفلوا بتقديم المساعدة الكاملة وانتشال هذه العائلة، واعدين بتأمين حياة كريمة وآمنة لهم، لا تشبه حياتهم المغمسة بالألم والمرارة والقسوة والحاجة.
كم أشعرنا هؤلاء الأشخاص بأن الدنيا ما تزال بخير، وأن روح العطاء لم تذو بعد، فمجتمعنا بأمس الحاجة لمثلهم ولمبادراتهم الخيرة، واحساسهم الصادق بالآخرين في زمن صعب ووسط حياة مؤلمة وثقيلة بأوجاعها واحتياجاتها.
مبادرات أهل الخير تعبر عن تكافل اجتماعي يعكس روح المجتمع وإنسانيته وحضاريته، ويؤكد أهمية احساس جميع الفئات بعضهم ببعض، ليكونوا أكثر حرارة وعمقا وطيبة.
استجابة المجتمع لكثير من القضايا التي تطرح عبر وسائل الاعلام، يُحمِّل الصحافيين مسؤولية مضاعفة في تعزيز هذا الدور الانساني الكبير واستثماره لبث روح العطاء والتكافل بين أفراد المجتمع كافة.
والاعلام يلعب دور الوسيط من خلال مأسسة هذا الكرم، والحس الانساني والشعور مع الآخرين في مجتمعنا، ويسهم في مد يد العون لمن يجتاجه.
السؤال عن المحتاج والبحث عنه والاكتراث بأحواله الصعبة لا يكلف شيئا، بل يعيد إلى حياتنا وعلاقاتنا الانسانية بعضا من روحها التي ذبلت في هذا الزمن الذي يزداد جفافا وتصحرا ويباسا.
نعول على أن تكون الحياة عكس تلك التي وصفها عنوان رواية الروائي جمال ناجي بأنها "حياة على ذمة الموت".