هل فكرنا بخطة "ب"؟
ثمة مخاوف في مفاصل الدولة الأردنية -الرسمية والشعبية- من "بعبع" عودة مئات أو آلاف المغتربين، نتيجة إجراءات التقشف و"توطين" الوظائف في دول الخليج العربية، خصوصا السعودية، ضمن مسعاها لضبط الإنفاق ولجم الخسائر الفادحة الناجمة عن انخفاض أسعار النفط.
هذه المخاوف مشروعة في بلد تتفاقم فيه أزمتا الفقر والبطالة، وسط انسداد أفق آلاف الصبايا والشباب المكدسين في منازل ذويهم بعد أن فقدوا الأمل في قنص وظيفة محترمة في سوق عمل متخمة.
وينظر الأردنيون بقلق إلى مصير قُرابة 300 ألف مغترب (900 ألف مع عائلاتهم)، مسلحين بشهادات جامعية عليا وخبرات تنافسية مهولة؛ غالبيتهم -لحسن الحظ- تعمل في الإمارات العربية المتحدة، تليها السعودية التي كان اقتصادها الأكثر تأثرا بانهيار أسعار النفط. وهناك عدّة آلاف في قطر والكويت ثم البحرين.
أمام خطط دول الخليج الانكفائية -ومن ضمنها تقليص الوظائف، وإحلال العمالة المحلية مكان الوافدة، وفرض ضرائب- ستشهد المملكة تحديا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا أكبر في السنوات المقبلة في حال تحققت مخاوف عودة المغتربين. لذلك، على الحكومة، قبل الشعب، التفكير بسيناريو "ب" اليوم قبل الغد، وإن كان هناك شبه توافق بين اقتصاديين ورجال أعمال ووزراء على استبعاد طوفان عودة جماعية، بخلاف حال الترقب التي أعقبت أزمة دبي الاقتصادية العام 2009. فالظروف الموضوعية الحالية لا تصب في فرضية توقع تدفق موجات بشرية شبيهة بلجوء ونزوح عشرات الآلاف عقب حروب 1948 و1967 و1991.
لماذا؟ لأنك إذا لم تدرك ما حصل في الماضي، لا تستطيع التنبؤ بمآلات المستقبل.
مثلا، تداعيات الانكماش الاقتصادي في إمارة دبي، الذي ضرب سوق عقاراتها العام 2009، لم تؤثر كثيرا على تواجد الأردنيين هناك، إذ صمدت غالبيتهم حتى تعافى اقتصاد الإمارة الرائدة تدريجيا على مدى خمس سنوات، وارتفع النمو الاقتصادي 4 %، فيما باتت تحتل المرتبة 19 عالميا من حيث ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات. وقتها، توقع العديدون في الأردن عودة الغالبية إلى الوطن، لكنهم لم يعودوا. بل أعادوا تدوير أعمالهم وانتقلوا للعمل في شركات جديدة في أبوظبي والسعودية وقطر والكويت. ومن عاد إلى الأردن، غادر بعد فترة لأنه/ها حصل على فرصة عمل جديدة بقوة شهادته وخبرته المهنية. وفئة منهم قرّرت الاستثمار في عقارات دبي عبر الشراء بالتمويل البنكي، فاستفادوا من قيمة ما يدفعونه شهريا لدى بيعهم العقار أو مغادرة البلاد. ومن هم من ظل في المنصب ذاته، لكنه قبل بمعاش شهري أقل لحين تحسن الحال، واتجه للصرف من مدخراته واختصار مشترياته.
واليوم، أصبح الأردنيون ثاني أكبر المستثمرين في قطاع العقارات والشقق بعد الإماراتيين، نتيجة حزمة سياسات تشجيعية، وتضاعف الإيجارات بعد الأزمة. قبل ذلك، كانت غالبيتهم ترسل الأموال لشراء شقق وأراض في الأردن. الاستثمار في العقارات بدبي أدّى إلى انخفاض حجم الحوالات مؤقتا، قبل أن تعود للصعود العام 2012 بواقع 2.2 مليار دينار، وصولا إلى 2.4 مليار العام 2015.
عدد من الأردنيين في دبي انتقل إلى السعودية رغم أنها لم تكن على رأس أولوياتهم بسبب الطبيعة المحافظة للبلاد. ومع إلغاء نظام الكفيل في قطر، يتجه أردنيون لإنشاء مشاريع انتاجية صغيرة في هذا البلد.
ويتوقع أن تستمر الغالبية بالعمل وفق الوتيرة ذاتها، ذلك أن أفراد العمالة المغتربة في الغالب تعلموا في مدارس القطاع الخاص ونالوا شهاداتهم الجامعية الأولى والعليا في أهم الجامعات الغربية، ثم اكتسبوا خبرات عملية نادرة نتيجة عملهم في شركات تنافسية، حيث لا مكان للواسطة في التعيينات الوظيفية العامة والخاصة. ولو افترضنا أنهم قرروا العودة، فإن دخولهم إلى السوق سينشط الاقتصاد الأردني لعامين على الأقل، فقط بالاتكاء على الصرف من مدخراتهم.
في التاريخ سوابق مماثلة. فبعد هجرة 1948، حقّق الأردن أكبر نسبة نمو في العام 1949، بعد ثلاث سنوات على تأسيس المملكة. وبعد نزوح العام 1967 تحققت نسب نمو كبيرة لسنوات، كما حال الرخاء التي سادت لسنوات بعد عودة الأردنيين من الكويت العام 1991.
ولا يخفى على أحد أن سهم الأردنيين العاملين في دول الخليج مرتفع كثيرا لدى مواطني هذه الدول، حيث تفضل حكومات الخليج إحلالهم مكان اللبنانيين والمصريين، الذين باتوا يستبدلون في السنوات الماضية لأسباب سياسية، مثل العلاقة مع حزب الله اللبناني أو الإخوان في مصر.
هل تراجع حصة حوالات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي جديدة؟ لا. فالتراجع حصل في السنوات السبع الأخيرة على التوالي، وليس فقط في الأشهر الماضية. إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن إجمالي حوالات المغتربين نسبة للناتج المحلي الإجمالي تراجعت من 20 % في 2008 إلى 12 % العام 2015. وربما كان السبب وراء ذلك قيام العديد من الأردنيين باستملاك شقق في دبي أو اضطرارهم للسحب من مدخراتهم بعد تراجع مداخيلهم وارتفاع تكاليف المعيشة الناجم عن إلغاء الدعم عن النفط وفرض ضرائب جديدة. فهم مستعدون للتأقلم بدلا من الرجوع إلى المملكة، حيث فرص الاستثمار والعمل شبه مستحيلة، مع تفاقم الأوضاع نتيجة اختناق الاقتصاد بفعل إغلاق الحدود مع غالبية دول الجوار وتخريج جيوش من خريجي الجامعات المحلية وغالبيتهم لا يملكون مهارات العمل في سوق اليوم. كما أن العديد من المغتربين شرعوا في رفع حصة الادخار لأنهم اقتربوا من سن التقاعد، وبالتالي تراجعت مستويات تحويلاتهم.
انخفاض نسبة الحوالات إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تنعكس على الحوالات الشهرية التي ارتفعت من 618 مليون دينار في الربع الثاني من 2015 إلى 630 مليونا خلال الفترة ذاتها من العام الحالي، وفق إحصاءات البنك المركزي الشهرية. لكن هل يعني ذلك أن أرجلنا وأيدينا في ماء بارد حيال المستقبل القريب والمتوسط والبعيد؟
بالتأكيد لا. إذ على الحكومة عمل المستحيل لتشجيع انسياب مدخرات المغتربين للداخل واستقطاب الاستثمارات الأردنية. سمعنا أخيرا عن تجهيز دراسات جدوى اقتصادية لحزمة مشاريع استثمارية لجذب أموال خليجية في عدّة قطاعات. وسيكون مفيدا عرض مثل هذه المشاريع على الأردنيين الراغبين في العودة والاستقرار. لكن يجب أن تقترن هذه المشاريع بأعلى درجات الشفافية والبعد عن المحاباة والمحسوبية أو عراقيل التكسب.
وحبذا لو كثّفنا حملات تشجيع انضمام المغترب اختياريا للضمان الاجتماعي وحفز القطاع الخاص على خلق وظائف جديدة بدلا من التوسع في سياسة فرض الضرائب والاقتصاد الرعوي، ذلك أن الولاء للوطن يتناسب مع مقدار ما يتوافر للمواطن من فرص عمل متساوية ودعم. عدد المنتسبين للضمان خارج المملكة لا يزيد على 130 ألف مشترك، أي إن أكثر من نصف المغتربين خارج مظلته، وسيحتاجون لنوع من أنواع الضمان لشيخوختهم.
سوق الخليج اليوم لم تعد واعدة كما كانت. ومن المستبعد أن تعود إلى أجواء الطفرة النفطية السابقة. لذلك علينا العمل سويا لحفز النمو الاقتصادي وبث الأمل في نفوس الخريجين الجدد، وكذلك العائدين الجدد وبمتطلبات أعلى، لاسيما أن غالبيتهم من أصحاب الكفاءة في قطاعات تكنولوجيا المعلومات، والطب، والهندسة، والتعليم الجامعي والمدرسي. وهم معتادون على مستوى مرتفع من الحياة مقارنة مع ما يقبل به موظف الحكومة أو في القطاع الخاص المحلي. وعلينا أيضا اجتراح حلول مبتكرة لتعديل قوانين ووضع تعليمات جديدة بما يشجع المغتربين على إقامة مشاريع استثمارية في بلدهم.
فنحن جميعا في السلة ذاتها. والدول التي سبقتنا وبادرت لتحويل اقتصادها إلى منتج، ليست أفضل منا، ومسؤولوها ليسوا أكثر ذكاء من مسؤولينا. فالأردنيون الذين ساهموا في بناء دول الخليج قادرون على العودة والمساهمة في تنمية بلادهم لو قام المسؤولون والشعب بالتفكير في حلول خلاقة خارج الصندوق.