الثقافة والإرهاب وتعديل المناهج


مع نهاية الحرب الباردة وبروز الجهادية الإسلامية تعاظمت الأطروحات حول العلاقة بين الثقافة والإرهاب وازدهرت مقاربات التحليل الثقافيّ وراجت أسواق حديث الثقافة وقد هيمنت الأطروحات المتمركزة ثقافيا بعد هجمات تنظيم القاعدة على نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001 وبلغ مداها الأوسع عقب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في يونيو 2014 وهي مقاربة اختزالية تتضمن مزيجا مركبا من التحليل الثقافي حول «صدام الحضارات» على غرار ما يعتقده صامويل هنتنغتون والتفسير الاستشراقي حول «أزمة الإسلام» كما يعتقد المستشرق برنارد لويس المسلمين وكلاهما ينشد بناء حالة تنبني على التفريق بين المسلمين الجيّدين والرديئين وهي وضعية متوافقة مع القوّة المهيمنة التي تحدد تمركزاتها الثقافية ماهية المسلم الجيد والرديء.


لاجدال بأن العالم العربي والإسلامي يعاني حالة من التخلف والتطرف العنف تتطلب إصلاحا لمنظومته الثقافية والسياسية للدخول في أفق الحداثة والتقدم إلا أن مسارات العالم العربي في الإصلاح تتماهى مع المطالبات الغربية التي تتهم المجتمع بالجمود والانغلاق والعنف دون مساءلة فشل سياسات الدولة الوطنية ما بعد الكولينيالية حيث تصدر خطاب إصلاح ومراجعة المنظومة القيمية والثقافية للدين الإسلامي معظم فعاليات الدوائر الفكرية والإعلامية الغربية والعربية واستحوذ على أذهان المفكرين وصناع القرار مسلمة انفراد الدين الإسلامي بظاهرة العنف والتطرف ورفض الاندماج داخل منظومة القيم الكونية للحضارة الحديثة.

بصرف النظر عن مقاصد وأهداف التحليل الثقافي فإن ثمة ضرورة حقيقية تتطلب إجراء عملية إصلاح لواقع الأمة العربية وهي تتلخص في نقطتين أساسيتين كما يؤكد عبدالله العروي وهما: الاصلاح السياسي والاصلاح الثقافي، والاصلاح الثقافي يتقدم على الاصلاح السياسي من الناحية المنطقية وتتزامن الإصلاحات من الناحية العملية وتقع مسألة إصلاح المناهج عموما والدينية خصوصا في صلب الإصلاح الثقافي، وتعتبر التجربة الإصلاحية المغربية أحد أهم التجارب نجاحا في العالم العربي وذلك لكونها تستند إلى مقاربة إصلاحية تكاملية تقوم على عملية إصلاح سياسي في تدبير الشأن العام وإعادة هيكلة الخطاب الديني.

لكن السؤال لماذا أثارت عملية تعديل المناهج في الأردن جدلا واسعا واستقطابا كاملا رغم الإقرار بضرورة الإصلاح الثقافي الأمر الذي لم يحدث في بلدان عربية شقيقة تتشابه في طبيعة نظامها السياسي والثقافي مع الأردن كالمغرب الذي تجاوز مسألة تعديل المناهج بسلاسة ودون ضجيج وضوضاء وغزوات ومعارك، ولماذا خلقت تعديلات المناهج صراعا حول هوية الدولة والمجتمع وطبيعة الدولة الدينية والمدنية وكأن القوى والتيارات السياسية والاجتماعية الأردنية استيقظت فجأة لتجد نفسها على كوكب آخر وكما لو أن هوية الدولة والمجتمع في الأردن كانت غائبة على مؤسسي المملكة وواضعي دستورها وميثاقها الجامع وهي دولة ملكية هاشمية أردنية عربية إسلامية دون لبس والتباس، ونطام الحكم في المملكة الأردنية الهاشمية كما يدرسه صغار الطلبة في مناهجهم ملكي وراثي دستوري، فالملك رأس الدولة وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو حامي الدستور، ونظامه السياسي يقوم على الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية ممثلة بالحكومة التي يعينها الملك فتمارس سلطاتها من خلال مجلس الوزراء والموظفين العاملين في الدولة، والسلطة التشريعية ممثلة بمجلسي النواب والأعيان واللذان يتوليان التشريع ومحاسبة الحكومة والسلطة القضائية وهي سلطة مستقلة تمتاز بقضائها النزيه وتحقيق العدالة بين المواطنين وصون حقوقهم.

يبدو أن الطريقة التي جرت فيها عملية تعديل المناهج في الأردن أوحت بأن الأمر لا يعدو عن كونه استجابة لضغوطات خارجية وليس استجابة لمتطلبات داخلية كما حدث في المغرب إذ لم تجر التعديلات بأوامر ملكية صريحة ونقاشات برلمانية شفافة ودراسات قانونية وافية بينما نجد في الحالة المغربية أن التعديلات جاءت بعد أن أصدر ملك المغرب محمد السادس في شهر فبراير الماضي تعليمات للحكومة تنص على «ضرورة» مراجعة مناهج وبرامج تدريس التربية الدينية في مختلف مستويات التعليم المغربي وبمراجعة مناهج ومقررات تدريس التربية الدينية كركيزة لمنظومة مفاهيمية متكاملة تهدف إلى تطويق كل مسببات الغلو الديني بغرض تكريس التسامح والاعتدال، عقب دعوات حذرت من «الثقافة الدينية التكفيرية».

لقد جاءت الإصلاحات المغربية عقب اجتماع وزاري ترأسه الملك حيث قدمت أمامه «الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 2015-2030»، وأوضح البيان أن المراجعة ستتم في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية»، وكان المغرب قد شرع في التأسيس لاستراتيجيته السياسية الجديدة في الحقل الديني في أعقاب التفجيرات الإرهابية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء في مايو 2003 وارتكزت الاستراتيجية الجديدة على مبادئ الحفاظ على الوحدة المذهبية للمغرب، والتشبث بمرجعية المذهب المالكي، وتشجيع الانفتاح على الثقافات الأخرى.

أحد مفارقات مسألة تعديل المناهج أن هذه المناهج التعليمية الدينية المقررة أشرف على وضعها ذات الأنظمة كما أن خطب وخطابات الإسلام الرسمي العربي تستند إلى ذات المرجعيات الفقهية التاريخية الأمر الذي يضع مشاريع إصلاح المؤسسات الدينية في حالة من التناقض والفشل المستدام في سياق البحث عن «المسلم المعتدل»، وهو مركب يعني ترسيخ أخلاق الطاعة.

في ظل تصاعد التطرف و العنف في المنطقة لا يمكن التغاضي عن ضرورة المباشرة في إصلاح ثقافي عميق ولا شك أن تعديل المناهج أحد متطلباتها الملحة لذلك لا يمكن أن يرتكز على ساق واحدة ولا بد من الدخول في أفق إصلاحات سياسية واقتصادية متزامنة فعلى الرغم من الحملة الكونية الشاملة على «الإرهاب»، ممثلا بالجهادية العالمية بشقيها تنظيم الدولة الإسلامية وقاعدة الجهاد، إلا أنها تمكنت من الصمود والتكيف وباتت تسيطر على مساحات واسعة في بلدان عربية عديدة، حيث نجحت في التقدم كمدافع عن الهوية السنية الممتهنة في مواجهة التمدد الإيراني والنفوذ الشيعي، وكقوة مقاومة لمواجهة الهيمنة الغربية باعتبارها تقود حملة صليبية، ولا شك بأن الحدّ من جاذبية تنظيم «الدولة الإسلامية» خصوصا قاعدة الجهاد عموما يتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات بعيدة المدى تتجاوز المقاربة العسكرية والأمنية الآنيّة، وتستهدف معالجة جذرية للأسباب والشروط والظروف الموضوعية العميقة التي أدت إلى ازدهار الظاهرة الجهادية ونموها وانتشارها، وذلك عبر تقديم نموذج ناجح للحكم الرشيد يتوافر على تجديد الثقة بإمكانية التغيير والإصلاح، وترسيخ قيم سياسية تستند إلى مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية.

في كتابه الماتع «المسلم الجيّد، المسلم السيّء: أمريكا، الحرب الباردة وجذور الإرهاب» يعتقد البرفسور محمود ممداني أنّ التفسيرات الثقافيّة والسياسات القمعيّة سوف تُفضي إلى دولة أمنيّة تخرق حقوق مواطنيها، ولا يتلاءم توقّع ممداني هذا مع الواقع فحسب بل يتوافق كذلك مع تحليل الفيلسوف الإيطاليّ جورجيو أغامبين في محاضرته «عن الأمن والإرهاب» حيث ادّعى خلالها أنّه:

«حين تقوم السياسة، كما فهمها منظّرو هذا العلم في القرن الثامن عشر، باختزال نفسها إلى عمل أمنيّ، فإنّ الفارق بين الدولة والإرهاب يهدَّد بالتلاشي. وفي النهاية، قد يشكّل الأمن والإرهاب نظامًا قاتلاً واحدًا يقوم فيه كلّ طرف بتسويغ وشَرْعَنة عمل الآخر» وبهذا فإن الخشية من التحليل الثقافي وحديث المناهج يصبح مشروعا في ظل غياب منظورات إصلاحية تكاملية شمولية.