جريمة شرف
قبل أشهر؛ حدثني أحد الأصدقاء يذكرني بموقف متعلق بالشرف وأخواته، قال :أحرجتنا يا زلمة: هال....؛ بتشحد من الناس ..فضحتنا بينهم، فقلت له :ترفق بالناس فأنت لا تعرف أحوالهم، قال والله لو انها من قرايبي الا يطخوها !، فأجبته :وما جريمتها؟ وكيف يقتلون ابنتهم بسبب طلبها من أصدقاء لدعمها لتجاوز ظرف مالي صعب؟ الناس للناس، ولا تجاوز سقطت به المسكينة، وهي قد تكون بحاجة ماسة لنقود لكنها لم تجد سبيلا سوى أن تقترض أو تطلب من أصدقاء مقتدرين.. يا زلمه يقتلوا حالهم لأنهم لو كانوا يتمتعون بكل هذا الشرف، لتكفلوا بحاجات ابنتهم وحفظوا ماء وجهها، حين هدرته لتخرج من ظرف مالي صعب، وهي لم تقم ببيع شرفها، بل اقترضت او تلقت مساعدة من أناس تعرفهم، انظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، وسوف تفهم أن المشاكل التي نراها كبرى هي صغرى جدا لو أمعنا النظر..إنسى. وصلته الفكرة فأراد تغيير الجو فقال :طيب ..دبرلي شوية مصاري تراني ماكل هوا، وفي حركة سريعة وضعت يدي على جنبي وقلت بصوت مرتفع :يا حيف الحيف، صرت شحاد..لازم تنطخ يا هامل ..فعدنا إلى أجواء لقاء الأصدقاء بعد غياب.
وقبل أيام قرأت عن المتحول جنسيا «شبيه هيفاء وهبي»، وقال الخبر بأن المدعو «هيفا ماجيك» وجد شابا يتزوجه، وقام المتحول جنسيا بتقبيل زوجه الجديد أمام الكاميرا، ورأيت فيديو التقبيل وبعض اللقطات للمتحول جنسيا..يلعن شرف الشبه شو كبير بينه وبين هيفا، ولم يذكر الخبر بأن أي لبناني أو غيره قام بتهديد الشاب المتحول جنسيا بالقتل، باعتبار المثلية من جرائم الشرف.. الدنيا انقلبت!.
أمطرتنا وسائل الاعلام وأشباهها بأخبار قتل النساء والبنات، ورصدت حوالي 6 جرائم في أخبار الاسبوعين الماضيين، وكتبت في مقالة سابقة بأن «التربية» هي التي تعاني من انقلابات مأساوية، فالناس لم يعد لديهم كل الوقت لتربية أبنائهم وبناتهم كما تربوا هم أنفسهم، وهي ربما انشغالات الحياة وشدة وطأة ظروفها، تحول دون وجود وقت كاف لدى ولي الأمر ليراعي شؤون أبنائه وبناته، بل إنه تحولت مفاهيمه حول التربية بأنها «تأمين القوت» أو تأمين المستقبل بمزيد من مال، فترك أطفاله لشغالة لا تفهم شيئا عن ثقافة هذا المجتمع، أو تركهم نهبا لثقافة السوق والعولمة، التي أصبح الناس فيها مجرد مستهلكين لأفكار التسويق والدعاية..فغابت ثقافتهم وما ارتبط بها من قيم.
النساء مظلومات؛ وكذلك أشباه الرجال، هم مظلومون أيضا، خصوصا حين ننتظر منهم مواقف كاملة، او مسؤولة، أو فيها مقدار من شجاعة ومواجهة لما يعتريهم من نقص في الفهم والأخلاق، لهذا نسمع عن كل هذه الجرائم، وتذهب عائلات بأكملها ضحايا لها، فالمقتولة ظلما وتقصيرا هي ضحية، والقاتل كذلك ضحية، والعائلة التي تنتمي إليها المقتولة كلها تذهب ضحية لموقف كان الواجب والطبيعي أن لا يحدث، لو اهتم الناس بأبنائهم وبناتهم كما يجب.. هذا التقصير هو بحد ذاته جريمة، فلا تبحثوا عن شرف هدرتموه سلفا حين لم تحترموا أبناءكم وبناتكم ولم تهتموا بتنشئتهم على الصدق والتوازن والطهر في الفكرة والثقافة والتصرف واحترام الناس.
هذه المقالة لا علاقة لها على الاطلاق بحديث «المناهج المدرسية»، بل لها كل العلاقة بالمناهج العائلية، التي هي أهم المناهج التي تصل للناس في بيوتهم، خصوصا حين يكونوا أطفالا صغارا، فينشأوا على روايات «الجاهلية» وأدبياتها التي تجنح للبدائية، وتقليل شأن نصف المجتمع ونصف الكائنات البشرية على الكوكب، فتنمو ذكورية «تتنافخ شرفا» بينما الواقع يتحدث عن أشباه رجال، لم يبلغوا درجة واحدة على سلم الرجولة الطويل الذي نعرف في ثقافتنا العربية والاسلامية والمسيحية والإنسانية.
حري بالناس وقبل أن «يسوقوها» شرف؛ حري بهم أن يواجهوا أنفسهم في بيوتهم، وأن يصدقوا المشاعر والتعامل مع بيوتهم أولا، فهي أهم من العالم الذي يدعون أنهم يملكونه، بينما هم في الحقيقة مجرد جهلاء، يسيرون كما القطعان إلى خارج التاريخ البشري، وليس فقط خارج سياقات الشرف والكرامة والعدالة والقيم الفضلى.
جرائم الشرف الحقيقية تحدث في التطاول على القيم وعلى الناس وكرامتهم، وتحدث في اغتيال الشخصيات، وفي تلفيق الثقافة السيئة، والحيود عن مكارم الأخلاق التي نعرفها كعرب منذ ما قبل الأديان التي انما جاءت لتؤكدها وتسعى لتثبيتها في سلوك البشر..
على كل حال؛ هم يقولون « الشرف بروح وبجي المهم الصحة»!.. ولا صحة مطلقا في تلفيق الثقافات واستبعاد الكرامة والعدالة والاحترام للحقوق والحريات والقانون، ومن يريد «مصاري» ليذهب إلى كل الناس في الكوكب، وإياه ثم إياه أن يسألني شيا، نقدا أو بالتقسيط، والله بطخ شرفه نفسه، وبقول عنه قليل شرف.
اقلبوا الصفحة ولا أقول البدوا أحسن الكو..فللشرف خطاب محترم، عرفناه في تاريخ الانجاز المثالي لمن سبقونا، فقد كان أسمى شرف هو ما فعلوه للناس بالحكمة والعدل والمواقف التي تستحق أن نتغنى بها، حتى وإن صدرت عن أعداء لنا، فكيف بها حين تصدر عن أجيال بل أبطال منا، هم البناة المؤسسون للفكر وللقيم الفضلى في الإنسان قبل البنيان.
ibqaisi@gmail.com