حين يشطح المؤرخ
«هنري كوربان» مؤرخ للفلسفة ذو اهتمام خاص بالعرفان الشيعي الامامي والاسماعيلي، وهو الى ذلك كثير الحديث عما يسمّيه «النهضة الصفوية» وعن الأبعاد المزدكية والزرادشتية للفلسفة الايرانية، وعن الولاية التي قد تتجاوز النبوة والرسالة، وعن اشياء كثيرة تؤكد تمازج الموضوعية عنده – وهي ملمح لا يملك مدافعته عنه في بعض ابحاث كتابه عن «تاريخ الفلسفة الاسلامية» بالشطح، وبالافتراضات الفانتازية.
ولقد كان من حُسن الطالع ان تاريخ هنري كوربان للفلسفة المذكور اعلاه قد حظي بمقدمة للامام موسى الصدر كتبها لطبعة دار عويدات من مقرّه في «صور» عام 1962م مشتملة على تصويبات شتى لاطاريح كوربان او لتجاوزاته اذا صح التعبير.
وعلى ان الامام الصدر اقرّ للمستشرق الفرنسي بفصل البحث العميق في جوانب بعينها من تاريخ الفلسفة في الاسلام، إلا ان لسان حاله في تصدير الكتاب هو ان اهل مكّة ادرى بشعابها، وهو ما أكدته وقفاته عند موضوعات بعينها في الكتاب ردّ فيها كوربان الى جادة الصواب فيها مثل: الظاهر والباطن، وفواتح سور القرآن الكريم، والإمامية، واستمرار تاريخ الانسانية الديني، والولاية، والتصوّف والتشيّع، والقُطب، والامام الغائب، ومبدأ الباطنية، وهي وقفات بدا فيها الزعيم الشيعي اللبناني اقرب في فهم القرآن الى علماء اهل السنة والجماعة، الامر الذي نلحظه كذلك عند ابي القاسم الخوثي في كتابه التمهيد في التفسير، وعند علي شريعني في موقفه من الغلو الصفوي، وعند احمد الكاتب في بعض اعماله، وعند محمد مهدي شمس الدين في مجمل مؤلفاته.
لقد بلغ الامر بكوربان درجة معجبة من الحماسة في تأييد الاتجاهات الغنوصية العرفانية، بما هي امتداد للزرادشتية الايرانية على حساب «عروبة» القرآن والرسول والسلف الصالحين، ولكن العلامة الصدر تولى الرد عليه بما لا يمكن لفقيه او مفسر سنّي ان يزيد عليه.
كتاب هنري كوربان «تاريخ الفلسفة الاسلامية» يمكن مقارنته بكتاب «دي بور» الذي ترجمه محد عبدالهادي ابو ريدة «تاريخ الفلسفة الاسلامية» كما يمكن مقارنته بكتاب عبدالرحمن بدوي «مذاهب الاسلاميين» ليتبين لنا امكان وجود الموضوعية بعيداً عن الشطح والمغالاة وعن تملّق مذهب دون آخر او قدمية دون اخرى كما هو الامر مع كوربان الذي ظن ان امتداحه للفرس لا بد ان يكون على حساب العرب الذين تنزّل كتاب الله بين ظهرانيهم، او بان يبخسهم اشياءهم فلا يعترف لهم بفضل ابدا إلا ان يردّه على نحو او اخر الى جدور مزدكية او زرادشتية او يونانية.
على ان ميزة كتاب كوربان الاولى انه يلفت الانتباه الى ضرورة الحذر من ان ينخدع باطاريحه مسلمو ايران فيكون ذلك سبباً في مزيد من القطيعة الذوقية والمعرفية بينهم وبين اكثر من مليار ونصف من اهل السنة، اخوانهم في الدين وشركائهم في المصير.