«اعرف حدودك»

 


حين يقول رجب طيب أردوغان لحيدر العبادي «اعرف حدودك» ويلغي فلاديمير بوتين زيارة مقررة إلى فرنسا، لأن سيد الإليزيه كان متردداً في استقباله، تتكشف أزمة حدود كبرى في الشرق الأوسط وفي علاقات روسيا بالغرب. إنها أزمة حدود جغرافية وأزمة حدود الأدوار وسط نذر بأن العالم في طريقه إلى التحول غابة يحكمها الأقوياء لا القانون الدولي. إنها أزمة حدود أدوار الدول الكبرى في الإقليم. أزمة حدود بين السنة والشيعة، وأزمة حدود أدوار الدول الكبرى في العالم.

 

 

أعجبني ما نقلته وكالة «رويترز» أمس عن أردوغان. قالت إنه كان يتحدث عن مطالبة رئيس الوزراء العراقي تركيا بسحب وحدتها العسكرية من معسكر بعشيقة كي لا تتسبب في إثارة «حرب إقليمية». نسبت الوكالة إلى أردوغان أن الجيش التركي لن يأخذ أوامره في شأن المعسكر من العراق. ونسبت إليه أيضاً قوله: «رئيس وزراء العراق يهينني... أولاً اعرف حدودك». وثمة من ذكر أن أردوغان قال للعبادي: «اعرف حجمك أولاً».

 

 

أعجبني الكلام لأنه يختصر بوضوح الأزمة الحادة في الشرق الأوسط التي أطلقها الحريق السوري، كما يختصر جوهر الأزمة الحالية بين روسيا والغرب، وهي غير منفصلة عن تداعيات ذلك الحريق.

 

 

ليس بسيطاً أن يخاطب رئيس تركيا رئيس وزراء العراق بعبارة «اعرف حدودك». يزيد من أهمية الكلام أن تركيا اعتبرت أن من أهداف معسكر بعشيقة منع حصول «تغييرات ديموغرافية» بفعل معركة الموصل المقتربة. وهذا يعني أن أنقرة تعتبر أن سلطات بغداد لا تلتزم حدود مسؤولياتها الدستورية حين تسمح للحرب ضد «داعش» بالتحول أحياناً غطاء لإحداث تغييرات ديموغرافية تُخِلّ بالتوازنات التاريخية بين المكونات داخل العراق، وبينه وبين جيرانه، وهذا يعبر بوضوح عن تبرم تركيا من قيام العبادي بإعطاء ثوب الشرعية لـ «الحشد الشعبي» المكون من ميليشيات شيعية يجاهر بعض قادتها بأنها تتلقى الأوامر من طهران لا من بغداد. ميليشيات لا تعترف بالحدود بين المكونات العراقية.

 

 

شهد الشرق الأوسط بعد اندلاع الأزمة السورية، أوسعَ عملية لإسقاط الحدود وفي غياب كامل لصمامات الأمان. أُسقطت الحدود التركية- السورية حين تدفق المسلحون بذريعة إسقاط النظام السوري. أُسقطت الحدود أيضاً حين تدفقت الميليشيات المؤيدة لإيران بذريعة إنقاذ النظام السوري. أُسقطت الحدود على يد إيران وأُسقطت على يد «داعش» وعلى يد تركيا. تسللت ميليشيات إلى سورية واستقدمت سورية ميليشيات.

 

 

أُسقطت الحدود في اليمن وحوله حين استولى الحوثيون على صنعاء ومعها ترسانة صاروخية تقلق الدول المجاورة. وبعد مباهاة جنرالات إيرانيين بفتوحات تشمل أربع عواصم عربية بينها صنعاء، لم يكن أمام السعودية غير أن تخاطب صاحب القرار الإيراني بمنطق «اعرف حدودك»، وكانت الحرب.

 

 

أسقط التدخل العسكري الروسي في سورية التوازن الذي كان قائماً بين الدول الكبرى على ملعب الإقليم. ذهب بوتين بعيداً حين راح يعمق عملية كسر التوازن. ذهب أبعدَ حين صب غضب قاذفاته على أحياء حلب المحاصرة. توَّج هجومه بالفيتو الخامس في مجلس الأمن. شعر قادة الغرب بأن القيصر خدعهم ويستغل فترة الانتخابات الأميركية لتحقيق انتصار حاسم على أن يترك لهم لاحقاً مهمات توزيع البطانيات والمساعدات الغذائية والجلوس في مقاعد الدول المانحة بعد دفعهم قسراً إلى مقاعد الدول الخاسرة.

 

 

كشفت مناقشات مشروع القرار الفرنسي في مجلس الأمن مخاوف الدول الغربية من اندفاعة القيصر. يشعر الأوروبيون بقلق مضاعف على قارتهم القديمة، خصوصاً في ظل الميول الانسحابية والانعزالية لدى أميركا والتي تبدو أبعد من أن تُختصر بأسلوب باراك أوباما.

 

 

تتبلور حالياً في الغرب رغبة في إيفاد رسالة إلى بوتين مفادها «اعرف حدودك». هناك تلويح بعقوبات جديدة وفرض شيء من العزلة، لهذا تعمّد فرنسوا هولاند الإيحاء بأنه متردد في استقبال بوتين الذي كان مقرراً أن يزور باريس في مناسبة أرثوذكسية. فهم بوتين الرسالة وردّ بإلغاء زيارته. كأنه كان يقول لهولاند «اعرف حدودك»، إنك تخاطب روسيا الجديدة وتنسى أنك تتحدث باسم فرنسا القديمة في أوروبا القديمة. الشرق الأوسط هو المسرح الساخن لأزمة الحدود والأدوار. لا العودة إلى الحدود السابقة مطروحة، ولا الاعتراف بالحدود الجديدة وارد.