هل تتغير الشعوب إذا تغير الحكام؟
لا شك أن كل تغيير فيه خير كما يقول المثل الشعبي. وليس هناك أدنى شك بأن التحولات التي حصلت وتحصل في عدد من الدول العربية ستتمخض عن نتائج إيجابية ليس في البلاد الثائرة فحسب، بل أيضاً في البلدان التي لم تثر حتى الآن. لكن من الخطأ الاعتقاد أن بلداننا العربية ستتحول فجأة إلى جمهوريات أفلاطونية فاضلة لمجرد أنها تخلصت من هذا الحاكم أو ذاك، فالمشاكل التي يعانيها العالم العربي ليست مشاكل سلطوية فقط، بل مشاكل عضوية وبنيوية واجتماعية وثقافية وعقدية متشعبة تتعلق بطبيعة العقليات العربية الشعبية وتقاليدها وقيمها وطريقة تفكيرها ونظرتها للحياة والعالم ومعتقداتها على مختلف أنواعها. فما أسهل تغيير الرؤوس، وما أصعب تغيير النفوس، كما يجادل غوستاف لوبون في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير»، حيث يرى أن العقليات المتحجرة تأخذ وقتاً طويلاً جداً قبل أن تتغير. ولا ننسى القول المأثور الشهير:» لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وليس حتى يغيروا رئيسهم. وهناك طبعاً القول الشهير الآخر: «كما تكونون يولى عليكم». فهذا الوالي من ذاك الشعب، وهلـّم جرّا.
بعبارة أخرى، فإن المعضلة الحقيقة التي تحول دون تقدم بلادنا لا تكمن فقط في الديكتاتوريات الحاكمة، بقدر ما تكمن في المجتمعات والشعوب التي تحكمها تلك الأنظمة المستبدة والفاسدة.
لقد عبرت الأمثال الشعبية عن العلاقة الجدلية بين الحكام والشعوب العربية خير تعبير. فهناك مثل شعبي يقول: «طنجرة ولاقت غطاها». أي أن الشعوب تمثل الطنجرة، والحكام يمثلون الغطاء المناسب لها، أو بالأحرى أن مقاس الغطاء على مقاس الطنجرة تماماً. وهناك مثل آخر يقول: «هيك مظبطة بدها هيك ختم»، أي أن نظام العيش الذي ارتضته الشعوب لا يمكن أن يمهره بختمه سوى هذه الثلة من الحكام البائسين، أو بعبارة أخرى، فإن الشعوب العربية لا تستحق أفضل من الزعماء الحاليين، لأنها منهم وهم منها. كما أن هناك مثلاً آخر يقول: «هذا الجرو من ذاك السلوقي» كي لا نقول كلاماً آخر.
يعني باختصار، عملية التغيير ليس بالسهولة واليسر الذي يعتقده البعض على صعيد التغيير والتطوير والإصلاح الذي تنشده الشعوب العربية بعد إزاحة الحكام الفاسدين والمستبدين.
صحيح أن هناك أمثالاً معاكسة للأمثال السابقة تضع اللوم في كل الفساد والإفساد والخراب والانهيار الحاصل في العالم العربي على الحكام، لا على الشعوب. فهناك مثل شعبي مشهور يقول: «الثلم الأعوج من الثور الكبير». أي انه عندما يكون لديك ثوران تفلح بهما الأرض، غالباً ما يكون الثور الكبير هو المسؤول عن جر المحراث بطريقة ملتوية، مما يجعل الأثلام عوجاء. بعبارة أخرى، فإن المسؤول الأول والأخير عن الاعوجاج الحاصل في بلداننا على كل المستويات الكبار وليس الصغار وسلطاتهم المعوّجة. وهل نسينا بيت الشعر القائل: «إذا كان رب البيت للدف ضارباً...فشيمة أهل البيت كلهم الرقص». وهناك مثل آخر يقول: «السمكة تفسد من رأسها»، أي أن من يُفسد المجتمعات ليس الكتلة الكبيرة وهي الشعوب ، بل الرأس الذي يقود تلك الشعوب. وغالباً ما ينادي البعض بأن غسيل الدرج يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، وهذا يعني إذا أردت الإصلاح الحقيقي فأبدأ من الأعلى إلى الأدنى.
لا شك أن السلطات الحاكمة تلعب دوراً تخريبياً هائلاً في إفساد المجتمعات وحرفها عن الصراط المستقيم كما جادل المصلح الكبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائع «طبائع الاستبداد». وقد أيد ذلك الطرح مصلح مهم آخر وهو جمال الدين الأفغاني الذي قال ذات يوم: «كما يولـّى عليكم تكونون»، أي أنه عاكس القول الدارج: «كما تكونون يولـّى عليكم». لكن المسؤولية تقع في المقام الأول على الشعوب في إصلاح ذواتها والأنظمة التي تحكمها. وقد قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً: «إذا رأيتم في اعوجاجاً فقوموني». وهذا القول لا يشير فقط إلى تسامح سيدنا عمر، بل يضع الكرة في ملعب الشعوب كي تتصدى لفساد الحكام وإجبارهم على السير على الطريق المستقيم. بعبارة أخرى، فإن مسألة الإصلاح والتقويم تقع أولاً وأخيراً على عاتق الشعوب. لا شك أن البعض قد يقول هنا إن الحكام العرب ليسوا بعظمة الخليفة عمر، وبالتالي فهم لا يسمحون بأي نقد لسياساتهم، وحسبُ الذين ينتقدونهم غياهب السجون، وأحياناً الاختفاء وراء الشمس. وهذا أيضاً صحيح، لكن لو أرادت الشعوب الصلاح فعلاً، ولم تكن مستمتعة أيما استمتاع بالفساد الذي تتهم الحكام بنشره والترويج له لثارت بين الحين والآخر من أجل إعادة المياه إلى مجاريها، ولرأبت التصدعات التي طرأت على أخلاقها وتصرفاتها وقيمها وعقلياتها ومبادئها، ولما انتظرت عقوداً وعقوداً تحت نير الحكام المستبدين والمنحرفين. لكنها تغاضت عن الفساد والإفساد، لا بل ساهمت في تكريسه بدل الثورة عليه وعلى مروجيه من الحكام والحكومات.
ويذهب البعض بعيداً في وضع اللوم على الشعوب فيما وصلت إليه مجتمعاتنا من تدهور وتأخر، بحيث يعتبرها مصابة بمتلازمة «ستوكهولم» التي يقوم المصاب بها عادة بالدفاع عمن يضطهده ويقمعه ويسجنه ويسومه سوء العذاب. فكما أن موظفي البنك الذي سطا عليه مجموعة من اللصوص يقومون بحماية السارقين عندما تقتحم الشرطة البنك، فإن بعض الشعوب العربية لا تتوانى عن الدفاع عن جلاديها وتبنـّي رواياتهم الإعلامية والسياسية القميئة والساقطة. فكيف تلوم الأنظمة الحاكمة في هذه الحالة إذا كانت الشعوب تتفاعل وتحمي الساقطين والطغاة من حكامها، وتعتاش على فتاتهم وتعاليمهم البائسة؟
زد على ذلك أن الشعوب هي من يقف في وجه الإصلاح والتطوير أحياناً،. وقد عاتبني ذات يوم مسؤول عربي كبير قائلاً: «يا أخي أنا أقدر صرخاتك المستمرة من أجل الإصلاح في العالم العربي، لكن دعني أخبرك بأننا نواجه أحياناً صعوبة كبرى في تمرير بعض الإصلاحات بسبب التعنت الشعبي والاجتماعي».
باختصار، إذا كانت الشعوب مصممة فعلاً في تحقيق قفزات حقيقية إلى الأمام، فعليها أن لا تترك عملية الإصلاح والتغيير للحكومات، بل عليها أن تبدأ بنفسها أولاً، على مبدأ:»إذا قام كل واحد منا بتنظيف الشارع أمام بيته، فسيصبح كل الشارع نظيفاً». ولعلنا نتذكر في هذا السياق أيضاً قصة ذلك الشخص الذي أراد أن يغير العالم، ففشل، ثم راح يحاول أن يغير بلده، ففشل، فجرب أن يغير مدينته، ففشل، ثم قريته ففشل، ثم حارته ففشل، ثم عائلته، ففشل، إلى أن أدرك أخيراً أن تغيير العالم يبدأ بتغيير نفسه. لست متشائماً أبداً في أن تقدم شعوبنا على إصلاح نفسها لإحداث التغيير المطلوب وعدم الاكتفاء بتغيير الرؤوس، وذلك كي ترد على الذين يتهكمون على الثورات العربية الأخيرة كرئيس جهاز الموساد الإسرائيلي الذي قال ساخراً: «إن ما نشهده في العالم العربي ليست ثورات، بل مجرد تغيير رؤوساء»، وذلك للتقليل من أهمية التغيير الحاصل عربياً. لكن الشعب المصري مثلاً قدم مثالاً رائعاً على عكس ذلك، فقد شاهدنا شباب الثورة وهم يتكاتفون يومياً يداً بيد لتنظيف ميدان التحرير بعد كل مظاهرة، وكأنهم يقولون: «نحن ثرنا لتنظيف بلدنا من كل القاذورات بما فيها الحكام القذرون». وقد زاد مشهد الثورة المصرية تألقاً عندما شاهدنا ألوف المصريين وهم يقفون في الطابور بانتظام عظيم لأول مرة للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء على الدستور، وهو مشهد جديد تماماً على المجتمعات العربية، وكأنهم يقولون للعالم:» إن ثورتنا شاملة، وليست مجرد تغيير للحاكم وبطانته العفنة».
فليكن التغيير الشامل إذن شعار المرحلة كي لا تنتهي ثوراتنا المباركة باستبدال شهاب الدين بأخيه، وكأنك يا بو زيد ما غزيت.