المجال الديني ومسؤولية الدولة



حتى يكون الجدل حول التعليم الديني فاعلا ومفيدا، يجب أن نتجادل أساسا حول دور الدولة ومسؤولياتها تجاه الدين والتعليم، وما المطلوب من الدولة والمجتمع؛ فقد فشلت كل محاولات تحريك المجتمعات باتجاه التأثير في تطوير التعليم، ولكن تشكل جدال قوي ومؤثر في اتجاهات لن تكون نتائجها مؤثرة في جميع الأحوال في العملية التعليمية.
يعمل في المجال الديني في الأردن حوالي خمسة وعشرين ألف موظف متفرغ؛ أساتذة في الجامعات، وقضاة وموظفو المحاكم الشرعية، وأساتذة العلوم والثقافة الدينية في المدارس، والأئمة والمؤذنون وموظفو الأوقاف والإفتاء، وغيرهم. والواقع أنه ليس ثمة حاجة لأكثر من ألف متفرغ من الأساتذة والقضاة (وهذا كثير)؛ فالتعليم والإمامة والخطابة يمكن أن يؤديها المجتمع من خلال متطوعين أو متعاونين، بلا حاجة إلى تفرغ، أو يمكن تفريغ عدد محدود اعتمادا على الموارد المجتمعية وليس الموارد العامة. ثمة حاجة لكليات جامعية تدرس وتمنح الشهادات الجامعية في أربعة اتجاهات: الفقة والتشريع، وهذا يجب أن يكون من خلال كليات القانون والقضاء؛ والثقافة الدينية العامة كمتطلب جامعي أو مدرسي في المرحلة الثانوية فقط؛ والعلوم الدينية، بما هي علوم فلسفية واجتماعية وثقافية؛ والإعداد والتأهيل المهنيين للأئمة والدعاة والمرشدين والأساتذة والمفتين.
لن يتأثر التعليم الديني والعمل الديني مثقال ذرة، ولن ينقص أو ينحسر أو يواجه تهديدا، لو ألغيت الوظائف الحكومية الدينية، فالمجتمعات قادرة بنفسها على تدبير وإدارة وتنظيم شأنها الديني وتعليم الدين، وبتكاليف وجهود أقل بكثير مما تبذله الحكومة، وفي مستوى من التقبل والجودة والانسجام أفضل بكثير من الوصاية الحكومية على الدين. فالمواطنون المسيحيون، على سبيل المثال، يديرون بأنفسهم وبمواردهم شؤونهم الدينية والتعليم الديني، ولا يبدو أن ثمة تقصيرا مؤسسيا أو دينيا أو تعليميا في هذا المجال.
أما الجانب المؤسسي الذي تقوم به المؤسسات الدينية الرسمية، فيمكن أن تؤديه مؤسسات أخرى متخصصة، وبكفاءة أفضل؛ مثل المحاكم والمجالس القضائية النظامية (العامة). ويمكن لوزارة المالية والبلديات أن تدير وتوثق وتستثمر الأملاك والأموال الوقفية كما تدير أموال وأملاك الدولة.
الحكومة في دورها الديني تهدر الموارد العامة، وتشكل وصاية على الناس وضمائرهم وأرواحهم، وتنتج التطرف والتعصب. ولو أنها تتوقف عن دورها الديني، فستنحسر تلقائيا معظم إن لم يكن جميع موارد التطرف المالية والفكرية، والملاذات الآمنة والمجانية للتطرف، وتنشأ اتجاهات دينية معتدلة منسجمة مع تطلعات الناس واحتياجاتهم. سوف تنشأ جماعات وطرق دينية تمنح للناس تطلعاتهم الروحية كما كانت على مدى التاريخ تفعل الطرق الصوفية والجماعات والحركات الاجتماعية، وسوف تنشأ مؤسسات علمية تعلم الناس الدين كما نشأت المذاهب الفقهية... ولم يكن للسلطة السياسية دور أو شأن في ذلك.
أنشئت في الأردن وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية العام 1967، لكن الناس على مدى القرون السابقة كانوا وظلوا مسلمين يعرفون دينهم ويطبقونه. ولا يلاحظ لوزارة الأوقاف دور إيجابي واضح في مواجهة التعصب والكراهية. ويبدو ملفتا بالفعل أن إنشاء وزارة الأوقاف ومنحها دورا وصائيا على المحتوى الديني بعدما كانت جزءا من مؤسسة القضاء، لأجل إدارة وتوثيق الأملاك والأموال الوقفية، تزامن مع الصعود الديني وظهور ونمو جماعات الإسلام السياسي والقتالي والتكفير والعنف المنتسب إلى الدين.
خمسة وعشرون ألفا يتقاضون رواتب من الضرائب والموارد العامة من دون أن ينجحوا في مواجهة الكراهية والتطرف. ولكن يمكن للمتطوعين والمؤسسات المجتمعية أن يؤدوا ما يفعله أولئك بكفاءة، ولو شُغّل هؤلاء الآلاف من الموظفين بأعمال حقيقية ومنتجة، فيمكن تحسين مستوى المعيشة والتنمية، أو على الأقل يمكن توفير خمسمائة مليون دولار سنويا من الإنفاق العام، تكفي لإنجازات كبرى ممكنة في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وتطوير الأراضي الزراعية والموارد المائية الشحيحة وتوفير الطاقة المتجددة الأقل كلفة وتلوثا... والتخلص تلقائيا ومن غير جهود كبيرة، من التطرف والكراهية!