شيخ الكتّاب
د . عودة أبو درويش
أمسك أبي بيدي وسرنا معا قاصدين الشيخ في الكتّاب ، الذي لم يكن بيته بعيدا عن بيتنا ، وكنت لا أزال في سنّ ما قبل المدرسة ، و يجب عليّ ان أتعلّم الكتابة والقراءة وأن أحفظ القرآن الكريم عند الشيخ الذي ما أن دخل أبي الى منزله حتّى رحبّ به بكلمات مقتضبة ، وأمرني أن أجلس مع الطلبة على الحصيرة في وسط الغرفة المبنيّة من الطين . وضعت الحقيبة القماشيّة التي خاطتها أمّي لي خصيّصا وكان فيها قطعة خبز طابون وحبّة خيار مما كانت جدّتي تزرعه ، ودفتر وقلم رصاص . أقترب أبي من الشيخ الذي بقي جالسا على كرسيّ حديدي ولم يقف على رجليه وقال ، أريد لابني أن يتعلّم القراءة والكتابة وأن لا يمضي الصيف الاّ ويكون قد حفظ جزء عمّا ، وافعل ما شئت معه من أجل ذلك . أحسست بنظرات الشيخ اليّ وأنا أرتجف ولا أستطيع رفع عينّي ، لأني كنت قد سمعت عن قسوته ، ثمّ رفع عصا طويلة تصل الى قرب مدخل الغرفة وقال مخاطبا جميع الطلبة ومحذّرا ايّاهم ، أن الويل ثمّ الويل لمن لا يتقن القراءة ولا يحفظ القرآن . وبدأ بتعليمنا الاحرف الابجدية التي أتقنّاها بسرعة فائقة ، ربّما لانّ طريقته القاسية في التعليم أجبرتنا على ذلك .
ثمّ بدأ يعلّمنا الصلاة ويأمر أكبرنا أن يمثّل أمامنا حركاتها ، وأصبحنا نصلّي صلاة الظهر في الجامع الكبير ثمّ نعود الى الكتّاب ، ونحرص على أن نداوم على أداء كلّ الصلوات في أوقاتها ، وبدأ يعلّمنا تجويد القرآن وحفظ جزء عمّا ، واستطاع معظمنا أن يتمّ حفظه في زمن قصير ، ولم يسلم أحد منّا من رفع رجليه على كرسيّ ليضربه الشيخ بعصاه الطويلة اذا حضرنا الى الكتّاب ولم نحفظ السورة القرآنيّة المقررة ، أو لم ننسخ الأحرف العربيّة بالخط الرقعي التي تكون أحيانا مائة مرّة . وكان يساعده في رفع قدمي الطالب المذنب أكبر الطلاّب حجما ، والذي أحيانا بعد أن يتمّ مهمته في مساعدة الشيخ ، يضربه أيضا بالعصا الغليظة الطويلة لأنّه أخفق في حفظ سورة قرآن أو قصيدة في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم .
لا أدري لماذا استغنى الناس عن شيخ الكتّاب ودروسه ، وحوّلوا أطفالهم الصغار للدراسة قي ما أسموه الروضة ، التي يتخرّج منها الاطفال وهم لا يحفظون كثيرا من سور القرآن الكريم ، ولا يتعلّمون المخارج الصحيحة للأحرف والتي كنّا نتعلّمها من القرآن أو من الشعر الجاهلي المقفّى ، جزل الكلمات عميق المعاني ، أو شعر أحمد شوقي الذي يعمّق العلاقة بين الطفل ولغته الأم ، لأنّ الطفل يتعلّم في سنواته الاولى لهجة عاميّة تختلف اختلافا كبيرا عن اللغة العربية الفصحى ، بعكس الطفل الغربي الذي لا تختلف اللهجة المحكيّة في البيت وفي الشارع عن اللغة التي يتم تدريسها في المدرسة أو ما قبلها ، مما يفقد الطالب العربي كثيرا من المهارات اللغويّة التي تكسبه تفوّقا في الدراسة والفهم والحفظ .
رحم الله شيخ الكتّاب الذي لم أكن أعلم أنّه مقعد ولا يستطيع أن يتحرّك ، الاّ في اليوم الذي طلب فيه منّي أن أدفع كرسيّه الذي صنعه له حدّاد المدينة ليصل الى السوق ، ولكنّي دائما أتذكّر عصاه الغليظة الطويلة التي كانت تصل الى باب الغرفة الخشبي وأعجب كيف أنّنا لم نكن نهرب منه . ومع أنّه لم يغيّر من أسلوبه في التعليم ولم يحدّث مناهجه ولم يغيّر جلسته على الكرسي ،الّا أنّه أحيانا كان يكافئنا ببعض الحلوى الملوّنة ، اذا نحن أحسنّا القراءة .
انّي الآن أشكره ، ولا بدّ أنّ الطلبة الذين تتلمذوا على يديه يشكرونه كذلك لأنّه جعلنا نكتب بخطّ جميل وبدون أخطاء املائيّة ونحفظ كثيرا من الشعر الذي يتغنّى بحبّ الوطن . وفي العطل الصيفيّة ، بعد أن التحقنا بالمدارس الحكوميّة ، كنّا نتسابق لندرس بين يديه القرآن واللغة العربيّة وبعض الحساب ، ولم يكن يهمنّا كثيرا اللغة الأجنبيّة ما دمنا نتقن لغتنا العربيّة التي نفاخر بها الدنيا .