الأردن وإحراق المناهج الدينيّة

 


وصل الصِدام بين نقابة المعلمين والحكومة الأردنية إلى قيام معتصمين ومدرّسين أمام مبنى وزارة التربية والتعليم في العاصمة عمّان، بإحراق كتب التربية الإسلامية وغيرها، احتجاجاً على التعديلات التي تضمنتها المناهج الجديدة، ووصفها المحتجون بأنها «تحريفات وتشويهات أصابت المناهج» طاولت مسائل مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وموضوع الجهاد ومدى حضور النصوص الدينية في المناهج، حتى أصبح تغيير عبارة «سافرتْ فاطمة إلى مكة» بعبارة «سافرت سامية إلى لبنان» تهديداً يستدعي وفق النقابة، «الوقوف في وجه كل الأيدي العابثة والمطالبة بإقالتها ومحاسبتها، سواء كانوا من داخل وزارة التربية أو من خارجها»!.

 

 

المعترضون على تعديل المناهج الدراسية في الأردن، وفي مقدمهم نقابة المعلمين، يحتجّون على مقولة اللجان المشرفة على التعديل «إنّ في الكتب المدرسية أفكاراً داعشية لا مصلحة في إبقائها، وهي التي قد تُسمم عقول الطلبة أو تجعلهم غير مُحصّنين حيال دعاية جماعات السلفية المسلحة والفكر الديني المتطرف». وعادةً ما يُكرّر المحتجون القول بأن تلك المناهج» تربّتْ عليها أجيال من أبناء الشعب الأردني، فتخرج عليها المعلم والمهندس والطبيب والضابط وتلك القيادات التي تبوأتْ المناصب وتسلمت مقاليد السلطة والحكم في مواقع المسؤولية والقرار، فهل هؤلاء إرهابيون ومتطرفون؟»، وفق نقيب المعلمين باسل فريحات.

 

 

والصحيح، أن مثل هذا المنطق، على وجاهته، لا يلتفتُ إلى أن المجتمع الأردني تغيّر، وأنه على رغم أن صفات الاعتدال والوسطية والتسامح غالبة عليه حتى الآن، فقد زادت فيه خلال العقود الأخيرة نزعة المحافظة الدينية، والتديّن الطقوسيّ المتلازِم مع تضعضعِ السلطة الأخلاقية، وتوسّع عديد المنضوين للجماعات السلفية المسلحة، بفعل الحرب في كل من العراق وسورية، ما دفع كثراً من الدارسين والمسؤولين للبحث عن منابع هذا التغيير واحتمالاته، وكان من الطبيعي إعادة النظر في المناهج الدراسية والسعي إلى «فلترة» ما تنطوي عليه من إمكان للحض على «التطرف والكراهية الدينية وتسويغ التوسّل بالعنف والإرهاب طريقاً لما يُعتقد أنه نُصرة للدين والأخلاق».

 

 

هذا السجال يقدّم نموذجاً جديداً لما تعانيه مسألة «الإصلاح» في المنطقة العربية كلها، فهي تكشف عن أنّ مجتمعاتنا لم تحُلّ بعدُ أسئلة الهوية والدولة والدين والأخلاق والحرية ومعايير التقدم، فضلاً عن أنّ جرأة الحكومات العربية على السعي لإعادة النظر في المناهج الدراسية ومحاربة التطرف الديني يقابلها تمنّع هذه الحكومات عن إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية وعميقة تتعلق بالحريات الفردية والعامة واستقلالية القضاء ومحاربة الفساد وتكريس المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص، وهي أسس لا يشتغل أي «إصلاح ديني مُرتجى» من دونها. زدْ على ذلك أنّ مجريات السجال الأردني تكشف عن استعجال في دفع التعديلات على المناهج في غياب للتنسيق أو تكامل للتخطيط والقرار بين لجنة تعديل المناهج في وزارة التربية واللجنة الملكية المنوط بها وضع استراتيجية تستهدف إصلاح التعليم العام في الأردن، وهي ثغرة أساسية أظهرت التعديلات الأخيرة كأنها استفزاز لمشاعر فئات من المجتمع زادت من استفزازها تعديلات لا قيمة حقيقية لها من قبيل أن سامية أصبحت فاطمة، أو من قبيل حذف عبارة «كان ابن بطوطة حافظاً للقرآن»، وهي أمثلة تؤشر مجدداً إلى التهاون في استخلاص الدروس، وإلى مأزق غياب النقاش الوطني العام والحر الذي يفضي إلى إجماعات وطنية، ويجدد العقد الاجتماعي في المجتمعات والدول العربية، بخاصة أنّ أحداً لا يستطيع أنْ يجزم بأن هذه المجتمعات والدول تعلّمتْ بالفعل ما يكفي من شلال الدماء والمآسي التي يشهدها العراق وسورية وليبيا واليمن وسواها.