اغتيال حتّر والحاضنة الاجتماعية للتطرّف
وما بين هاتين القنطرتين يكمن مأزق العقل العربي في هذه اللحظة الملتبسة، فهو يعاني انفصاماً حاداً بين المعلَن والثاوي في الأعماق، كما يعاني تمزّقاً عميقاً بين الواجب الأخلاقي والضرورة الدينية، فضلاً عن التناقض بين رغبته في العيش في ظل دولة مدنية، وحنينه القاتل إلى الزمن البدائي الذي يسبق الدولة والقوانين والانضباطات القسرية.
ومن مآزق هذا العقل المشبع بالغيبيات (لا الروحـــانيّات كما يتوّهم بعضـــهــم) أنه لا يستطيع أن يمـــضي في تمثّل إنسانيته حتى أقصاها، بمعنى أن ليس في مكنته أن يتضامن مع ضحية، مثل الكاتب الأردني ناهض حتّر الذي اغتيل قتلاً بالرصاص، من دون أن يعطف ذلك التضامن عـلى أنّ الضحية «أساء إلى الذات الإلهية» عندما أعـاد نشر الكاريكاتير المسيء في صفحته على «فايسبوك»، على رغم أنّ حتّر اعتذر عن الأمر وأزال الرسم، وكان القضاء ينظر في فعلته تلك.
لا يستطيع ذلك العقل أن يمنح نفسه برهة لكي يدين الجريمة، فجعبته مليئة بالأدلة الحاسمة: كان الضحية ذا ميول عنصرية وإقليمية، وكان مناصراً شديداً لبشار الأسد، وللمعسكر الإيراني... وكان، وكان!
لكنّ الرجـــل سقط مضرّجاً بدمائــــه، فيمـــا لــم يقـوَ ولداه اللذان يرافقانه على منع نزيفه بعد الرصاصات الغادرة التي أفنت روحه في دقائق معـــدودات أمام قصر العدل في وسط العاصمة عمّان. أفلا يستحق هذا المشهد المفجع الدامي لحظة تأمل تتيح للضحية أن تشهق أنفاسها الأخيرة بسلام. أليس في قلوب المخالفين المناهضين لناهض، لحظة تسامح أو هدنة مصالحة للحيلولة دون انتصار الموت على الحياة؟
وقبل أن يجفّ دم الضحية، كانت مواقع التواصل الاجتماعي، ويتعين أن يُطلَق عليها مواقع الكراهية، تضجّ بكل أشكال الشماتة، وتُسبغ على القاتل أوصاف البطولة والشهامة والفروسية، وبأنه انتصر لله، وانتقم للأمة، بل إنّ محامياً يضع شعار ميزان العدالة على «بروفايله»، قرّر أنّ الضحية لا يستحق حتى الرصاصات التي اخترقت جسده!
بمثـــل هذه البشاعة وآلياتها يتحرّك العقل العــربي المسكون بجبـــال شاهقـــة ومنيعـــة مـــن المسلّمات، فمن يسيء إلى الدين مصـــيره الموت، بالتــالي على الدولة تنفيـــذ القصاص، و«عـــلــى الحـــاكــم أن يقتـــله، وإن لم يفعل يكون ذلك من واجب آحاد الناس»، كما أفتى الشيخ محمد الغزالي عقبَ اغتيال الكاتب المصري فرج فودة!
وكما أنّ قاتل فودة لا يعرفه، فإنّ قاتل ناهض حتر كذلك، فهو قال إنه تعرّف إلى صورته من خلال الإنترنت. لكنّ الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي أجّجت نيران الكراهية، وحرّضت، وتوعّدت، وأطلقت تهديداتها للكاتب القتيل، وفّرت الملاذ الآمن للقاتل. وفعلت الأمر ذاته الدولة التي خضعت لابتزازات التديّن الشعبي وأحالت حتّر للمحاكمة، وألّبت عليه الرأي العام، فصار المغدور المطلوب الرقم واحد لكل من يرغب في إثبات تديّنه. تلك الحاضنة الاجتماعية للتطرف هي التي آوت «داعش» فكراً وممارسة، وبرّرت ممارسات التنظيم الأشـــد وحشيـــة، بذريعة أنه يدافع عن أهل السنّة، ويريد أن يقيم شرع الله في الأرض، ويؤسس دولة «الخلافة» التي تعيد مجد الإسلام التليد... وهذه أسطوانة يردّدها عن ظهر قلب مثقفون وساسة ونخبة ومتعلمون وغير متعلمين وشباب وفتيات، ومراهقون يرطنون بأغانٍ أجنبية!