نجاحٌ أردنيٌّ جديد
خاب مجلس النوّاب الثامن عشر نجاحاً. ورسمت العمليّة الانتخابيّة برمّتها مشهداً انطوى على سلبيّاتٍ وإيجابيّاتٍ في آن. في الأسباب الكامنة وراء السلبيّات وفي طبيعة الإيجابيّات تأكيدٌ على نجاعة النهج الأردني المقتنع بحتميّة الإصلاح وفق وتيرةٍ متدرّجةٍ لا تباطؤ فيها يُحبِط، ولا تسرّع يقود إلى تعثّر.
في مقدّم الإيجابيات نزاهةٌ وحياديّةٌ لم يشكّك فيهما إلاّ بعضٌ ممّن لم يحالفه الحظّ. وبينها أيضاً عملٌ مؤسّساتيٌّ وقدراتٌ تنظيميّةٌ انعكست سلاسةً في عمليّة التصويت والفرز. وما خلا مناطق قليلةً جدّاً، مارس المواطنون حقّهم في الانتخاب بحضاريّة وسلميّة. وما عدا حالاتٍ محصورة، تقبّل المرشّحون وأنصارهم النتائج بهدوءٍ وعقلانيّة.
الاستثناءات المحدودة لهذه الحال انتقصت، للأسف، من إشراقة الصورة الكليّة.
فالاعتداء على مراكز للاقتراع في منطقة بدو الوسط، والعنف الذي لجأ إليه مواطنون في غير دائرةٍ انتخابيّة غضباً على خسارة مرشّحيهم مؤشّرٌ على هشاشة الثقافة الديمقراطيّة واستسهال التطاول على القانون. أمّا عدم قيام السلطات المسؤولة بتطبيق القانون على من عُرِف ممّن خرقوه فاستمرارٌ لثقافةٍ استرضائيّةٍ تسهم في تشجيع ممارساتٍ مغلوطةٍ لا تقود إلى الإصلاح المنشود.
هذه سلبيّاتٌ محدودةٌ لم تغيّر المسار الإيجابي العام للانتخابات. لكنّ السلبيّة الأكبر التي تؤكّد ضرورة التدرّج في الإصلاح هي غياب الطروحات البرامجيّة عن التنافس الانتخابي والأسس الفردانيّة التي حكمت الترشّح والتصويت.
فلم يتنافس معظم المرشّحين على أصوات الناخبين استناداً إلى البرامج والأفكار. وصوّتت أكثريّة الناس وفق معايير القرابة والمعرفة. التوافق الفكري لم يتجذّر في المجتمع الإطار الذي يجمع أغلبيّة الناخبين ويحكم خياراتهم. وتحقيق ذلك شرطٌ لنضوج الديمقراطيّة لن يتحقّق إلاّ بشكلٍ متدرّجٍ يشجّع بروز الأحزاب القائمة على البرامج التي تساعدها على بناء قواعدها الشعبيّة.
الطريق نحو ذلك طويلة. لكنّها ليست مستحيلة. فالناس يتلقّفون الفكر المستنير الذي يتبنّى الطروحات المؤمنة بالتعدديّة والمساواة والانتماء والمواطنة ومستعدّون لدعم دعاته.
هذه حقيقةٌ عكس جانباً منها الحماسُ الذي أظهره الناخبون نحو قائمة "معاً" التي قالت بالدولة المدنيّة الجامعة ورفضت الانغلاق والتطرّف. في هذه الانتخابات، كان الحماس لمثل هذه الطروحات عفويّا يُجسّد تيّاراً فكريّاً عامّاً، وليس حزباً منظّماً. بالتدرّج سيصير هذا التيّار حزباً يمكن أن ينافس في الانتخابات القادمة، فيمضي بالمسيرة الديمقراطية خطوةً أخرى.
وهكذا تُبنى الديمقراطية. خطوةٌ على خطوةٍ حتى تُستكمل كلّ شروط إنضاجها ثقافةً تعدّديّةً مستنيرةً تحميها قوانين راسخةٌ، وتعزّزها مؤسّساتٌ صلبةٌ لا تحتكم إلا للدستور والقانون، فلا ترضخ لنزعات إقصائيّة، ولا تضعف أمام محاولات فرض استبداديّة ثقافيّة.
بهذا المعنى، أخذت الانتخابات النيابيّة المملكة خطوةً على درب الإصلاح. واكتسبت تلك الخطوة أهميّةً مضافةً إذ أنّها جاءت في لحظةٍ إقليميّةٍ صعبةٍ يواجها الأردن بتعزيز بنيانه المؤسّساتي داخليّا وحشد الدعم لمواقفه خارجيّا.
فبينما كان الأردنيّون ينتخبون ممثلّيهم في السلطة التشريعيّة، كان جلالة الملك عبدالله الثاني في الأمم المتحدة يتحدّث إلى المجتمع الدوليّ حول سبل مواجهة التحدّيات التي تعصف في المنطقة، ويسعى للحصول على مساعداتٍ تزيد من قدرة الأردن على مواجهة تداعياتها.
وفي هذا المشهد دلالاتٌ لا يمكن إغفالها حول صلابة المملكة وعمق ثقتها بنفسها.