مجتمعات “مشاعرية” تحلم بـ "الدولة المدنية"


رغم أنني أعرف دولا كثيرة لديها انتخابات برلمانية، بما فيها دول صغيرة وفقيرة ومغمورة، لكنني سأتفق مع مسؤولين وإعلاميين أجمعوا بحماسة كبيرة أننا "عشنا مشهدا نادرا على مستوى العالم” كما وصفوه بالضبط !
لكنَّ لا أحد يستطيع أن يزعم أننا نعيش في مجتمع مدني، أو أننا قريبون من بلوغ ذلك. فكل ما يحدث وما يتعلق بأي مناسبة دستورية أو وطنية يحاط دائما بالخطاب العاطفي والمشاعري، ويجري تغليفه وتصديره محلياً على هذا النحو الذي يخاطب مشاعر وطنية واجتماعية ودينية.
حيث يجري مثلا ربط المشاركة في الاقتراع بمنسوب الانتماء للوطن، أو الإيمان بالدولة، دون الاهتمام بقراءة واعية وبحثية لأسباب الإحباط التي تسببت بعزوف الكثيرين عن ذلك.
ويجري أيضا الزجّ بالدين، والإفتاء، بمسائل لا علاقة لها بالدين، مثل الفتوى التي قيل لاحقا أنها مجرد اشاعة، عن أن الاقتراع واجب شرعي ! وحتى لو كانت اشاعة فهي تؤشر على طريقة تفكير وإدارة تعتمد على مخاطبة الغرائز الوطنية والدينية وتوظيفها في غير سياقها، ووسط مهرجان من الأغاني (الوطنية) والحديث بحنجرة متهدجة عن "العرس الديمقراطي” !
وبناء على ذلك يتم إشاعة جو من "الحصانة” لأية عملية تحدث تحت هذا الغطاء المشاعري الصاخب، ويصير الانتقاد لأي تفصيل أو تصرف مستهجنا وغير مقبول من أي طرف. فالامر مرتبط بالحب والكراهية، بالولاء والانتماء، فنحن عرضة دائماً للتذكير مع إصبع متوعدة "إننا وسط إقليم ملتهب”.. رغم أن دول الإقليم الملتهب نفسها أجرت انتخابات برلمانية "في عزّ دين التهابها” !!
الكل يطالب الإعلام بتسليط الضوء على الإيجابيات، رغم أن ما يسمى بـ "الإيجابيات” هو الوضع الطبيعي وأصل الأمور ولا يجب أن يشكر عليه أحد، فهذه مهمات ووظائف طبيعية في كل دول العالم، يمارسها موظفو دولة يتقاضون رواتب. والوضع العقلي السليم أن ما يلفت انتباه الإعلام هو الخطأ لا الصواب.
كما أن الانتخابات ليست هدية مجانية، أو منَّة من أحد، كما يجري تصويرها، فهي في دول العالم شيء عادي جداً، كالماء والهواء والتعليم المجاني، .. بل تخيل أنها تبدأ وتنتهي دون أي أغنية وطنية !!
ما أريد أن الاحظه في الانتخابات ومجلس النواب الجديد، ان الحكومة كانت معنية جدا بانجاز هذا "الاستحقاق الدستوري”، وهي معنية بالضرورة بزيادة نسب الإقبال والمشاركة لإنجاح هذه الخطوة وإتمامها على أفضل نحو أمام العالم. أما المواطن فكان معنيا بمسألة أخرى الحكومة ليست طرفا فيها وهي سويّة المرشحين ودرجة اقتناعه ببرامجهم أو شخصياتهم. وهو ما لا يهمّ الحكومة كثيرا فهي على إطلاع جيد على قدرات وسقوف كل المرشحين، وتكاد تكون مطمئنة، ولا تتوقع أية مفاجآت ! وما يهمها بالدرجة الأولى انجاز الأمر بهدوء وسلاسة ودون منغصات أمنية.
حسناً. وبما أن الأمر "عرس ديمقراطي” وبما أن الأغاني الوطنية قد منحته الحصانة (المعتادة) فلن نعلِّق على ما انتابه من سلبيات وما اعتوره من أخطاء.
لكن ذلك لا يمنع من التعليق على الخاصرة الضعيفة، وهي كالعادة المجتمع. بناخبيه ومرشحيه. فحين نتحدث عن المال السياسي فنحن نتحدث عن بائع ومشتر، عن عرض وطلب، وحين نتحدث عن خرافات يروجها مرشحون من باب الدين فنحن أيضاً نتحدث عن مرسلٍ ومجموع المستمعين، لذلك نجد انفسنا في مجتمع يصبح فيه استحقاق "الدولة المدنية” حلماً ووعداً وشعاراً يُرفع في الانتخابات، بل ويهاجَم من البعض، رغم أنه وضع طبيعي جداً، وعاديٌ وبسيط .. أن أصل الدولة، أية دولة، في كل العالم هي دولةٌ مدنية حتى لو كانت وسط "إقليم ملتهب” !