ماذا لو نزل سيدنا المسيح؟


إسؤالٌ معقول في ضوء الأدبيات الإسلامية والمسيحية.


وهو سؤال أقضّ مضجع الروائي الروسي دستويفسكي فجعله مدارَ فصلٍ من فصول روايته الشهيرة: «الإخوة كارامازوف»، وجعل نزوله المفترض إلى الأرض في مدينة إشبيلية الأندلسيّة إبّان ظلامية محاكم التفتيش حيث تداعى ضَعَفةُ الخلق عليه والمحرومون يلتمسون لديه ما منعوا منه من عَدْل ورحمة وكرامة.

ولا نبحث هنا في الدوافع التي كمنت وراء اختيار دستويفسكي لإشبيلية ولكّننا نشير إلى فظاعة جرائم محاكم التفتيش في الأندلس، وإلى ما كان هناك من مذابح – باسم المسيح عليه السلام – ومن عمليات تنصير قسريّ للمورسكيين، ومن ألوان تعذيب مُورست أحياناً في الأديرة نفسها، وهي أمور نُرجحُ استقرارها في وعي الروائي الروسي الباطن حين اختار اشبيلية مكاناً لعودة سيدنا المسيح على نبيّنا المصطفى وعليه وعلى رسل الله جميعاً وأنبيائه سلام الله.

لقد كان من وقائع هذه العودة المفترَضة أن يأمر رئيس ديوان التفتيش أو «المفتش الأعظم» باعتقال النبي الكريم وبإيداعه السجن. فإذا ما كان المساءُ أتاه في محبسه وقال له: «إنني أعرفك ولا أجهلك ولذلك حبستك. فلماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا وتُلقي العثراتِ والعَقَبات في سبيلنا؟».

وإن مما جاءَ في هذا اللوم الشديد من «رجل الكنيسة الكبير» للسيد المسيح قوله: «لقد كّلفت الناسَ ما لا طاقة لهم به، كلفتهم حريّة الضمير ومؤونة التمييز، وكلّفتهم أوعر المسالك، فلم يُطيقوا ما كلّفتهم، وحبطت مساعيهم بما طلبته منهم، والآن وقد عرفنا نحن داءهم واعفيناهم من ذلك التكليف وأعدناهم إلى الشرائع والشعائر؛ تعود إلينا لتأخذ علينا السُبُل وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحريّة الضمير؟

ثم يقول المفتشُ الأكبر بصرامة ووضوح: «إنّه ليس لك أن تسترد السلطان الذي مُنحناه قديماً، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فَدَع هذا الإنسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلاّ أسلمناك لهذا الإنسان غداً، وسلّطناهُ عليك وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك، ولَتَرَيَنَّ غداً هذا الشعب الذي يلثم قدميك اليومَ مُقبِلاً علينا مبتهلاً لنا أن نخلّصه منك وأن نُدينك كما نُدينُ ضحايانا من المعذّبين والمحرّقين..».

يقول إيفان كارامازوف، بطل الرواية التي ننقُلَ كلامنا عنها: «إن السيّد المسيح (عليه السلام) لم ينبِسْ بكلمة، ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازدراء، وإنّه تقدّم إلى المفتش الأعظم – وهو شيخ فانٍ في التسعين – فلثَمَ شفتيه وخرج إلى ظلام المدينة، وغاب عن الأنظار».

السؤال الذي نفترضه الآن هو: ماذا لو نزل السيد المسيح في مجلس الأمن في نيويورك، وتجمّهر حوله ممثلو الأمم المستضعفة المنكوبة بالنظام العالمي ومفتشيه وجلاوزته؟.

إن خيالنا لن يجرؤَ على تصوّر ما سيكون، وسنتذكّر حينها أيّة قوّة لحريّة الضمير تمتع بها الكاتب الروسي الكبير، وأيّة رسالة وجّهها للغرب المتوحّش في روايته الرائعة..