في تناقضات المشروع القومي للعلمانيّة الكماليّة




في ٢٠٠٧، خرّ الصحافي والناشط الحقوقي الأرمني هرانت دينك، صريعاً برصاص متطرف قومي تركي في مقتبل العمر. فرّ القاتل من مسرح الجريمة وهو يصيح: «لقد قتلت شخصاً غير مسلم». وفُسّرت العبارة لاحقاً من بعض الحلقات التركيّة بأنها تعني أقليّة، والأقليات في تركيا هي الأرمن والمسيحيون واليهود.

 

 

حدث ذلك بعد ما يقارب الثمانين عاماً على قيام الجمهورية العلمانيّة الكماليّة الأحاديّة الهوية.

 

 

ومنذ بداية الألفيّة الثانية، كان تقدُّم حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم وتثبيت دعائم سيطرته، إلى درجة الانقلاب على المؤسّسة الكماليّة، مناسبةً لإطلاق الأسئلة عن حدود علمانيّة النموذج التركي في بلدٍ غالبيته الساحقة مسلمة. وواقع الأمر أن العلمانيّة الكماليّة التي نقلت تركيا من السلطنة إلى الجمهوريّة الحديثة، وُلِدتْ حبلى بتناقضاتٍ مؤجّلة في سياق بناء الدولة – الأمة. وهي لم تكن لِتُحَلّ، بقدر ما كانت تدار وتؤجّل.

 

 

جاءت العلمنة الكماليّة مشروعاً حملتْه نخبة عسكريّة بيروقراطية فرضته على مجتمعٍ رافض، وتميّز بقطعٍ حاد مع التراث الرمزي والثقافيّ. فالفراق بين السلطة الروحيّة والزمنيّة، لم يكن يعني حماية حريّة العبادة، بل إخضاعاً قاهراً للسلطة الروحية إلى السلطة الزمنية، فلم تتوقف الدولة التركيّة الحديثة من خلال وزارة الشؤون الدينيّة عن اجتثاث الدين من حقول ومجالات اجتماعيّة وثقافيّة، وتوظيفه في ما يخدم السياسي. واسترشدت هذه الممارسات بالرؤية الكمالية القائلة إن الإسلام بطبيعته دينٌ سياسيّ لو تُرِك لرجالات الدين فإنهم سيهدّدون الوحدة الاجتماعيّة. وتاريخ الجمهورية الكمالية يحفل بأمثلة عن توظيف الديني في خدمة السياسي. فمنذ الخمسينات شهدت البلاد تساهلاً مع التعبيرات الدينيّة لمجابهة المدّ الشيوعي، وبذلك كانت العلمانيّة الكمالية كأنموذجٍ تفترق عن العلمانية الأنغلو - سكسونية الليبراليّة الطابع، وتقارب النموذج الفرنسي من دون أن تلامسه. فهي منعت التعبير الإسلامي في الحقل السياسي وقهرتْ تمثيلاته الاجتماعيّة، وفي الوقت عينه قاربت، في توظيفها التلاعبي للدين، نماذج ديكتاتوريات الشرق أوسطية الأخرى.

 

 

وفي مجابهة سؤال الهويّة الشائك، أسّست الكماليّة مقاربتها النظرية للهويّة التركيّة على أساس جغرافي عرقي، ونفت التنوع الإثني والقومي في المجتمع، ودارتْ حول الانقسامات الطبقية بقولها بوجود جماعات مهنيّة لا طبقات متنازعة. غير أن الكماليّين وجدوا أنفسهم مضطرين في ضوء القطع الثقافي - الرمزي والقهري الذي قاموا به مع كثير من تمثيلات الهويّة التاريخيّة العثمانيّة (منع ارتداء الطربوش، منع الحلقات الصوفية، تغيير الحرف العربي، منع الأذان بالعربيّة…) إلى البحث عن عامل روحيٍّ ثقافي موحّد يبرّر هذا التوجه نحو أوروبا والابتعاد عن المحيط الإسلامي، فظهرت نظرية غريبة دُرِّستْ في المناهج التركيّة، وسُمِّيتْ نظرية لغة الشمس Sun Language Theory، وتذهب إلى أنّ كل لغات العالم تعود إلى لغةٍ ظهرت أواسط آسيا ضمن طقوس عبادة الشمس، واللغة التركية الحديثة هي أقرب لغات العالم إليها. وتكمل النظرية فتقول: اضطر سكان تلك المناطق إلى الهجرة إلى أوروبا وأرجاء العالم بسبب الجفاف والجوع، وأسّسوا حضاراتٍ مختلفة، وبذلك يكون تراث الترك الروحي - الهويّاتي غير إسلامي، بل منغرساً في الحضارة العالميّة. لم تكن هذه المقاربة النظرية أصيلة بما يكفي لإدارة الدولة القهرية للمجتمع، لذا بقي الدين هويّةً خفيّة للدولة الكماليّة، فاعتبر الدستور التركي عام ١٩٢٤ جميع المكونات القومية المسلمة تركيّةً من حيث الهوية من أكراد وشركس وسكان البحر الأسود (اللاز) والعرب، ولم تطلق تسمية أقليّات سوى على اليونانيّين والمسيحيّين واليهود، وتمت تسميتهم بمواطنين أتراك يحملون الجنسية، لكنهم ليسوا كذلك من حيث الانتماء القومي.

 

 

ظلت الدولة الكمالية تقوم بإدارة التوترات الاجتماعيّة ومحاولة الحفاظ على مظهر الدولة - الأمة التركيّة الموحّدة عقوداً، لكن التحديّات برزت تباعاً في مجابهتها منذ أن انتهت مرحلة حكم الحزب الواحد (حزب الشعب) عام ١٩٤٧، بدءاً مع عودة التيارات الإسلامية المهمّشة إلى المشهد وفق الحدود الدستورية المتاحة في كل مرحلة، ووجّه صعود اليسار وتنامي الطبقة العاملة في المدن الكبرى تحدّياً لنظرية مجتمع الجماعات المهنيّة اللاطبقي. ومع بداية الثمانينات، انطلق العمل المسلّح من جانب حزب العمال الكردستاني في تعبير انفجاريّ عن فشل الإدماج العنفي للمكوّن الكردي في الدولة - الأمة التركية، ووجد ضباط الجيش الكماليّون بعد انقلاب كنعان إفرين عام ١٩٨٠ أنفسهم مضطرين لإعادة صياغة مفردات النظرية الكمالية بما يتواءم مع المرحلة الجديدة، فخلقوا مزيجاً نظرياً قومياً - دينياً لمجابهة اليسار، ومنذ ذلك الحين تسارَع صعود التيار الإسلامي.

 

 

وهذا بدأ بوصول تورغوت أوزال إلى رئاسة الوزراء، ثم نجم الدين أربكان الذي لم تمكّنه عقليته التقليدية الأيديولوجية من المناورة مع المؤسسة الكمالية العسكرية، ولا كسب دعم غربي، وسرعان ما اضطر للتنحي، فظهر تيّار تجديدي انشق عن حزبه، تمكن من كسب قطاعاتٍ أكبر من المجتمع التركي، والتقرب من الغرب في محاولة للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، ما عنى زيادة هامش الحريات، وتقليص تدخل الجيش، معقل الكمالية، في الشؤون السياسيّة، وصولاً إلى ما يسمّيه كثر من المراقبين نهاية الجمهورية الكمالية وتأسيس جمهورية جديدة ذات وجهٍ تركيٍّ إسلامي، بخاصة بعد أن تهيّأت الشروط لاجتثاث بقايا مراكز الكماليّة في الجيش ومؤسسات الدولة بعد محاولة انقلاب عسكري فاشل.