قيس أبو الهيجا استشهد عائدا من حيث غادرنا مهاجرين


كان لا بد للعودة ...ولو عبر الروح :  فقد ولد الشهيد قيس أبو الهيجا وعاش بضع سنين في مخيم العودة في الأردن بين بيوت ضيقة ، لا تترك سوى فسحا قليلة للمرور يسمونها "زاروبة " أشباه بيوت حددتها في البداية أوتاد خيم ، لوجوه خائفة لا تريد سوى الاستقرار فوق تراب حتى لو أصبح اصفر جافا بعد أن كان احمر قبل أسبوع. ليحفروا في يوم النكبة ذك يوم العودة ..

واستشهد قيس ابو الهيجا في مظاهرة سلمية عدت الأولى من نوعها في مجدل شمس في هضبة الجولان السورية المحتلة أثناء إحياء ذكرى النكبة أمام أسلاك حدود فلسطين المحتلة، وأبو الهيجا مواطن أردني كان يعيش في آخر شهرين بمخيم اليرموك وكتب وصيته منذ عام 2002 معاهدا نفسه على الشهادة بعد أن وضعها في علبة خاصة.

دعوني أعود إلى 15/5/1948 هناك سكنت الأجساد المهجرة والمتعبة ، وبعض الأصوات لطرق مفاتيح تمسكها النساء أملا بفتح بيوت قد سلبت، طلبا للعودة ...فقد  ذهبت البيارات وبحيرية طبريا ومزارع بيسان و سمخ وجيء بأكياس بيضاء  تحمل اسم "  unrwa" يأتي فيها الطحين الذي لا يشبع بطون اعتادت أن تحصد طعامها من أرضها. حتى تلك الأكياس كان علينا أن نحتفظ بها كي نصنع منها ملابسنا ..

مهجرون هكذا سميو ..فوق مخيم سيسمى "كمورفين نضالي " وصراخ يخرج في ساعات القهر والعسرة من عجوز وراء سور قصير :" راحت فلسطين يا ولاد الأرض ضاعت" وجلسات جول شخص سمع خبرا جديدا في مذياع قهوة ، وجدة ما تزال تحتفظ بجيبها بمفاتيح البيت الذي استعمره الصهاينة وتخبئ سرا بأنه خبأت أسفل شجرة الزيتون كل الجنيهات والذهب، فقد اخبروها المسكينة انه ستعود بعد ستة أيام تحرر فيها الجيوش الأرض وستظل تنتظر 60 عاما دون أن يخرج المفتاح من جيبها..

 بجانب السكة التي غادر عبرها الأتراك وعاد من عاد ممن حالفهم الحظ فابقي السفر برلك أرواحهم، بقيت السكة صامتة حتى يأتي القطار فيركض أبناء المخيم ليضعوا مسمار تحت القطار فيتحول إلى شفرة ، وهناك يسأل الأطفال :" يابا هذا القطار بودي على فلسطين" الزواريب ضيقة لا تتسع لحلم ولكنها تتحول إلى سجن كلما مررت منها يدلس على احد منافذها   ثلاثة شبان  غادروا بعد ذلك إلى لبنان أما أحدهما فسجن في سوريا بعد خلافات حادة نشأت بالجنوب ومن الطرافة انه سجن في فرع فلسطين ،والآخر استشهد  في بيروت وهناك من شكك بالشهادة لأنه كان يساريا وأما الثالث فيحكى انه أصبح ثريا في ألمانيا وله زوجة شقراء وفي يوم الأرض وضع الوشاح الأبيض المنقط على رقبة ابنته .

 خرجت أجيال كثيرة احسبها سبعة  .. ولم تعد تعرف من العودة سوى اسم المخيم وهناك من نسي حتى اسمه، ويعرف انه مخيم الزرقاء ،منذ ذلك المخيم تهرب من الاسم .. فلم يعد يحلم احد بالعودة فبيسان أصبحت بيت شان وطبريا تحاط بالمستعمرات ... إلا ان قيس بقي يحفظ كتابات وصور وأحاديث تحكى بين حين وحين وقصة تقول لنا ارض اغتصبت يجب ان نعود لها..

في رحلة ما لا بد لقيس ابو الهيجا أن وقف فوق جبال أم قيس وشاهد بلاده بعينه  ارض ممتدة بالأشجار الخضراء... وأسلاك شائكة تقطع رؤيته وقلب يتفطر على ارض اغتصبت دون أن ندري.. عاد في باص الانوروا يصيبه غثيان في رأسه وليس في بطنه كما توقع المعلم المشرف ، وذلك الباص الكبير الذي أحضرته الوكالة يمنعك حتى من أن تضع يديك على رأسك لتفكر في ذلك المشهد الذي طبع في عيني قيس.. ينام مرهقا .. ويستيقظ يفتح الباب أملا في عودة طبريا وما يحيطها ... لكن البيوت الرمادية تغتال الحلم بسرعة ويعود إلى نفس المشهد ولأول مرة يتوجه عكس مدارس الوكالة يذهب  إلى نادي العودة ويتمعن جيدا في كلمة العودة ويستمع جيدا هذه المرة إلى فيروز وراديو يعيد نفس مقطعها بعد أخبار الثانية  .. "وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة "وينتظر مناسبة ما يصطحبه والده فيها إلى اربد فيجالس بعض من يعرفون فلسطين جيدا فيسألهم عن الذي شاهده ولا بد أنه وصف لهم طبريا وسأل لعشرات مرات بلدتنا وين ..

هذا المشهد عشته وعاشه قيس  أبو الهيجا وأظن انه مكث في مخيم الزرقاء قليلا مثلي تماما ، وسال عن بيسان وعن العودة مثلما سألت الحاجة أم حسن أبو الهيجا التي تقطن في مخيم اربد منذ عام 1948 ولطالما أرهقتها بأسئلة عديدة ،وان كان يقترب من عمري فأيقن أننا بقينا نسال كيف تقبلوا المخيم بعد سنوات حيفا وعكا ومرج عامر وطبريا ولكننا فهمنا الكثير من الإجابات فيما بعد.

دعوني اقلع مرة عن كتابة السياسية المريرة وأتوقف بوصف قيس أبو الهيجا وهو يبوح ما نكتمه أننا نريد أن نعود ونقول عاش جدي وجد جدي هنا و قد رأت جدتي جدي وهناك و زرعنا هذه الأرض لألف سنة خلت .. دعونا لا ننتقم لتلك النسوة اللواتي  خرجن دون أن ينظرن إلى الخلف تجنبا لفوهة بندقية قناص. إلى أولئك الرجال الذي اتهموا أنهم تخلو عن  أرضهم وهم لا يملكون سوى أصابعهم .. خذلتهم الأمم المتحدة والجيوش العربية وكل طموح المقاومين فكل شيء أصبح كذبا ولم يصدق سوى بلفور وسايكس بيكو ..

أتعرفون  ماذا فعل قيس أبو الهيجا .. لم يحمل سلاحا ولم يحمل حجرا حتى لا يتهم بأنه مخرب ولا لصا مثلما كانوا يصفون مقاومي ما بعد عام 48 ولم يملك سلاحا فقد فتح له الجيش السوري مجاراة للظروف السياسية الطريق فقط ليدخل بصدره فقط  يحمل قلبه وصدره ليتنشق هواء فلسطين في يوم النكبة ...

يا قيس كنت اعرف أن السورين لا يسمحون لي ولا لك بحمل سلاح على أرضهم ولكنك حملت قلبك واعدت نظرتك نحو فلسطين تلك النظرة الأخيرة التي بقيت تعلق الجفون منذ ذلك التاريخ حتى اليوم تلك النظرة التي لم يرها سوى جدك وتمنى لو أعادها مسرعا مثلما أسرعت إلى فلسطين ...يا قيس سحبوا السلاح منا مرات كثيرة وكثيرة وخشيت أنت أن يسحب للمرة الأخيرة فركضت نحو فلسطين بجسدك ..

شاهدتك معهم للمرة الأولى والأخيرة وانتم تركضون نحو "الشيك "  تحملون أملا منع كثيرا ومشهد لم نكن نراه سوى على الشاشات .. وها أنت وهم تكسرون قاعدة الصهاينة بان فلسطين سوف تنسى عبر التقادم هي تورث في قلوب العباد الصالحين نرثها جيل بعد جيل .. قد فتحت فلسطين يداها ومزقت الشيك واحتضنت روحك وقالت خذوا الجسد واتركوا لي روجه ... مت وصدرك مفتوح... غسلتك الملائكة وكانت آخر لحظاتك قريبة من خط الشهادة ...أيقن كيف كان تجذبك فلسطين إليها لتحقق لك حلمك بالعودة عدت غصبا عنهم ياقيس واستشهدت هناك ولن تعود إلى البيوت الضيقة ولا إلى الزواريب التي لا تتسع سوى لام وطفلها لن تشرب مرة أخرى من حليب الوكالة ذي الطعم الرديء ولن تضايقك بطانيات الوكالة الخشنة ... ولن تحلم بالعودة .. نم مستقرا سيعيش أبنائك يذكرون زملائهم بالمدرسة أنهم أبناء شهيد رافعي صوتهم أبي عاد عاد عاد يوم النكبة عاد

قيس كنت شجاعا فكيف واجهت المدفع بصدرك ونحن نهرب من ألف إجابة وإجابة وداعا يا صديقي واعدك أني سأعود يوما حتى لو قلدتك وعلقت روحي على أسلاك الاحتلال ..

Omar_shaheen78@yahoo.com