معلم و مفكر ومناضل وفيلسوف العصر

· 

** خيم عهد العسكر المستبدين " المجلس العسكري الحاكم " بضلاله الثقيلة على البرازيل ، في حقبة سوداء مظلمة  هيمن فيها العسكر على كل مقدرات البلاد  هناك . ويبدأ نضال "فريري"  عندما سائه مارأى من مشهد مؤلم تعيشه بلاده  ، ليقرر بعد أن غاص في عمق مايعانيه شعبه ، إلى مفهوم  محدد وهو أن النهوض في الوطن لن يتأتى دون الخلاص من  الاستبداد والأمية ، ليبدأ مشواره الطويل نحو مكافحة  الأمية والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنشر الوعي الثقافي والسياسي الذي يحتاجه الشعب في هذه المرحلة العصيبة ، لتؤسس  إلى مكافحة الاستبداد والظلم ونشر قيم العدالة والديمقراطية بعد ذلك ، بدأ فريري نضاله متجهاً  الأرياف والقرى حيث تفشي ظاهرة الأمية ، وتنقل من قرية إلى أخرى  ومن مدينه إلى أخرى ، وفي فترة قياسية نجح فريري في إحداث التحول لعدد كبير من الناس الذين قهروا الأمية على يديه  ، وتحولوا من أناس سلبيين إلى قراء نهمين  يتصفحون بإتجاهات مختلفة بما فيها مطالعة  كتب فكرية  وسياسية ، ليشكل ذلك تحولاً نوعيا في منظومة الثقافة السياسية والاجتماعية والفكرية لدى الناس ، وفور ورود الانباء للحكام المستبدين ، إشتاط العسكر  غضبا مما سمعوه ، فأعلنوا   بدء حملتهم لمكافحة هؤلاء المثقفين الجدد ، كما قرروا في الوقت نفسه اعتقال فريري معتبرين انه مجرم يجب محاكمته ، ليتم  إيداعه بعد ذلك في غياهب السجن ، كما قاموا بتشكيلّ  محكمة عسكرية للقصاص منه ، استمرت في محاكمته 82 ساعة ، أما الحكم الصادر فكان  "  إصدار وثيقة * جاهل * لباول فريري ، والإعلان بأن فريري عدواًً للمسيح ، ولم يكتفي الحكام بذلك  ليقرروا  نفيه  إلى الولايات المتحدة الأمريكية – أما اختيار هذا البلد بالذات فهي قصة أخرى تبدأ بما شكله فريري من حالة نضالية تكشف العلاقات الوظيفية لحكام بلاده المستبدين مع دول اخرى  مما جعل فريري منتدقداً على الدوام لهذه العلاقة التي يراها مضرة بشعبه وبمستقبل وطنه لأنها من وجهة نظره لم تبنى على اسس وطنية تخدم الشعب بل هي علاقة رأسية وتبعية تضر بالوطن والشعب . اقتيد باول فريري إلى المطار وتم نقله إلى أميركا ، واعتقد فريري بان اجله المحتوم قد حان لان نقله إلى هذا البلد لم يأتي صدفه . بعد رحلة طويلة همت الطائرة  بالهبوط على الأراضي الأمريكية ، ليبدأ معها خفقان قلبه بالتسارع . فريري يترجل من مكانه ويسير بحذر متجهاً نحو  سلم الطائرة ، عيناه ترقب الباب الرئيسي وتسترق النظر بخشية نحو المحيط  خارج الطائرة ، إنه يتوقع   كل شيء .. في هذا البلد الذي لطالما هاجم سياساته من قلب الريف ، عندما كان يقوم بمهمته  بين الفلاحين ،  أصبح فريري خارج بوابة الطائرة ليصيبه الذهول مما رئى ، جمهور كبير من الرجال  يرتدون البدلات الأنيقة وربطات العنق الملكية أحذيتهم تلمع ويصطف  خلفهم  الجنود ورجال الأمن يبتسم الجميع وهو ينظر لفريري ويشيرون بأصابعهم نحوه وتخرج همهمات السعاده من افوافهم   ويقولون هاهو قد ظهر ياله من معلم وعالم ومفكّر رائع ، تقدم الرجال منه عندما لامست قدماه  الأرض ليعانقه بعد ذلك المستقبلون  بحرارة ، ويهنئونه بالسلامة ، ليمتزج ذلك مع عبارات الترحيب القوية والمؤثرة ، ليزيد الذهول لدى فريري من هذا الاستقبال الغير متوقع من القيادات  التربوية  في أميركا ، سال فريري أكل هذه الحفاوة لرجل لطالما قام بمناهضة  سياساتكم تجاه بلاده...؟ يرد احدهم قائلا ياسيدي أتينا هنا لأجل نظرياتك التربوية التي نأمل ونتمنى أن يفسح لها المجال  لكي تسهم في تطوير التعليم في بلادنا .. بدأ فريري رحلته الجديدة من النضال التربوي حيث أمضى  16 عاما في المنفى ، جاب فيها دولا كثيرة في امريكا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة يطور البرامج التربوية والتعليمية هنا  ويحاضر هناك ، حيث أحدث فريري  تحولات كبيرة في الفكر التربوي في تلك البلدان وحسّن في نوعية التعليم ومخرجاته ،  فقط البرازيل حرمت  منه بسبب  هيمنة المستبدين العسكر الذين يحكمون البلاد  ..وبسبب التحول الديمقراطي الذي حدث في البرازيل بعد الـ16 وإجراء الانتخابات الديمقراطية هناك مترافقا ذلك مع عزل العسكر عن الحكم ، وانتخاب رئيس للجمهورية ليكون من أولى قراراته قراراته ، إعادة سريعة لفريري إلى أرض وطنه البرازيل  . ولدى هبوط الطائرة  وترجله منها فوجيء فريري  عندما شاهد جمهور المستقبلين ، وعلى رأسهم رئيس بلاده . وفي تصريحه الصحفي على ارض المطار ،  رداً على  سؤال  وجهته  إحدى الصحفيات قال رئيس الجمهورية معلقا على وصول فريري إلى ارض وطنه   فيقول : إن البرازيل كانت تفخر بأمرين ،  واليوم أصبحت تفخر بثلاث أشياء . الأول : البن البرازيلي . والثاني : كرة القدم . أما الثالث : " باول فريري " ..بهذه الكلمات المعبرة  افتتح العهد الجديد لفريري ، حيث التنكر  لقسوة الماضي وإعادة الاعتبار  لما حل به من ظلم في بلده ، بدأ فريري رحلته الجديدة للنهوض بالتعليم في البرازيل  ، وليعود فريري بعد ذلك إلى بيته الريفي فلقد بدأت إستراحة المحارب لديه ،  وفي الأثناء إندلعت مسيرات واحتجاجات  تطالب بمحاكمة الجهلة حسب الجماهير الغاضبه وهم هنا العسكر ،  الحكام السابقين للبلاد ، على ماقترفوه في البلاد ومنه مافعلوه بفريري . وفي عتمة إحدى الليالي وبسبب وتحت إزدياد الضغط الشعبي عليهم ، قرر  المخلوعين العسكريين السابقين  التوجه إلى منزل فريري لتقديم  الاعتذار عما إقترفوه تجاهه من أفعال ، وفي لقائهم الليلي معه  رجوه أن يعطيهم الوثيقة التي تم إصدارها له قبل 16 عاماً وتفيد  بأنه جاهل وعدوا للمسيح . حيث رد فريري عليهم قائلاً : بخصوص هذه الوثيقة استطيع أن أمزقها أمامكم ، فهي ليست مجرد ورقة عليها بعض الحبر ، ويلتفت  خلفه حيث ستارة تغطي الحائط  ، ويبدأ بإزاحتها ليذهل العسكر مما شاهدوه حيث الوثيقة أصبحت جدارية تغطي الحائط بعناية ليعاود فريري الحديث قائلا ...وثيقتكم ستظل وصمة عار على جبين أعداء العلم والمعرفة ،  أما حقوقي الشخصية فأنا متنازل عنها لصالح البرازيل ولصالح الإنسانية والعلم والمعلمين أيضا. ويضيف تذكروا أيها العسكر ما سأقوله لكم الآن  جيدا : نحن معشر المعلمين لا نحقد  ولا ننتقم بل  نعلّم قيماً ومباديء ومعرفة فقط ، ونضحي من أجل أبنائكم ، وأخيرا إذا ظلمنا لا نشتكي ..لكنّنا  نسامح دائماً...سامحكم الله .....