الصندوق رقم ( 54 )

الصندوق رقم ( 54 )


د . عودة أبو درويش

رغبة منّي في معرفة صندوق الاقتراع الموجود فيه اسمي ، والمدرسة التي سأنتخب فيها ، ومشاركة منّي في العرس الوطني الكبير ، دخلت الى موقع الهيئة المستقلّة للانتخاب وبسهولة عرفت رقم الصندوق والمدرسة التي سأنتخب فيها ، ثمّ بدأت أتصفح سريعا الاسماء الكثيرة للمواطنين الذين سيقومون بالانتخاب في محافظة معان ، وتوّقف المؤشّر صدفة على الصندوق رقم ( 54 ) اناث ، والموجود في مدرسة بنات الضاحية الاساسيّة ، فوقعت عيني على أسم أمّي ( شمسة ) التي توّفيت رحمها الله قبل أربعين سنة ، فركت عيناي ، مسحت نظارة القراءة ، حرّكت قدماي وعدّلت من وضعي على الكرسي ، قرأت الاسم ثانية لعلّي أكون مخطأ ، ولكن الاسم الرباعي صحيح وهو أسم أمّي رحمها الله ، التي لم تشارك أبدا في الانتخابات النيابيّة ، ولم يكن ذلك من أولويات حياتها ، التي كانت كلّها من أجل القيام بواجباتها المنزليّة للعائلة الكبيرة التي تعيش في الحوش الكبير ، وواجباتها الدينيّة التي كانت تفضّلها على كثير من الامور الدنيوية.
ثمّ لفت انتباهي أنّ كثير من النساء المدرجة أسمائهن في القائمة التي تعود للصندوق المذكور من مواليد العقد الأوّل والثاني والثالث من القرن الماضي ، وكثير منهن أموات ، وبعضهن أعرف أنهن انتقلن الى رحمة الله قبل ثلاثين أو أربعين سنة ، ولكن وللصدفة أيضا وجدت في القائمة اسم صديقة أمّي (غلام ) ، وكنّا نسمّيها ( سورية ) بتسكين الياء وهي امرأة باكستانيّة الأصل ، في يديها ووجها نقط بيضاء وتتحدّث بلهجة ركيكة ، تؤنّث المذكر وتذكّر المؤنّث ، كانت تجوب كلّ حارات المدينة حاملة على رأسها بضاعة ملفوفة بشال كبير ، وتحمل في يدها أيضا مثل ذلك ، وكانت تأتي الى حارتنا ، تلتقي النساء وتفرد لهن بضاعتها ، وكنت أنا والاطفال الصغار نلّتف حولهن لنرى الأشياء المختلفة ، التي في معظمها نسائيّة ، وبعضها صور ذات أطار للخضر الاخضر على فرسه يقتل التنيّن ، وكانت هذه الصورة معلّقة في معظم بيوت مدينتنا .
وأسم آخر لجارتنا أمّ صبحي رحمها الله ، وهي امرأة وجيهة تتحدّث بلهجة فلسطينيّة محببة ، وبيتها كان أوّل بيت أذهب اليه في العيدين ، وقد روت لي أمّي ، رحمها الله ، وحسب العادة في تلك الايّام ، أنّهم أخذوني الى بيت أبي صبحي ، فذبح ذبيحة ، وسلخها ثمّ علّقها وأدخلوني من خلالها وأبو صبحي يقرأ القرآن ، ويؤذّن في أذني اليمين ويقيم الصلاة في أذني الشمال ، وخبزت جدّتي أمّ صبحي ، كما كنت أناديها ، رغيفا في الطابون وضعته في كيس من القماش ، بقي مخبأ في الصندوق الخشبي ، الذي جلبه أبي لأمّي من الشام ، حتّى كبرت وسافرت فضاع الرغيف ، وعلّقت أمّ صبحي على صدري خرزة زرقاء اتقّاء للعين وحسد الحاسدين .
كثيرة أسماء نساء معان المتوّفيات رحمهن الله في قائمة الصندوق رقم ( 54 ) ، وبعضهنّ أتذكّرهن جيدا ، وأتذكّر ثيابهن السوداء الفضفاضة والعصبة على رؤوسهن ، وكنت أحبّ أسمائهن وأستغربها مثل عمّتي غندورة وجارتنا غزوة ، رحمهما الله .
أعتقد أنّ الأسماء سقطت سهوا ومن غير انتباه القائمين على الهيئة المستقلّة للانتخاب ، ولكنّهم مشكورين ذكّروني بنساء كنّ أخوات الرجال ، ساعدن في بناء الوطن وبعضهنّ منذ أوّل تأسيسه ، وكما تعوّدت صباح كلّ عيد بإذن الله ، سأزور المقبرة التي فيها قبر أمّي وبعض قبورهنّ ، رحمهن الله ، وأقرأ الفاتحة وأسلّم عليهن في رقدتهن .