الانتخابات الأردنيّة والحفريات الدينيّة!
يوشك مرشحون للانتخابات البرلمانية الأردنية التي ستُجرى في العشرين من الشهر الجاري، أن يتحوّلوا إلى مؤرخين وأنثروبولوجيين وجيولوجيين، بعد أن فجّر مرشح ما فاجأ به الأردنيين، حينما قال إن النبيّ محمد قد نام ليلة في منطقة السخنة التابعة لمحافظة الزرقاء (شمال شرقي العاصمة عمّان وتبعد عنها زهاء 45 كم).
المرشح، وهو وزير سابق للأوقاف، وله صولات في الحديث عن عالم الجنّ وتمثّلاته، قال مخاطباً جمهور منطقته الانتخابية: «هل تعرفون لماذا اخترت الزرقاء؟ وماذا فيها؟ فيها السخنة، حيث نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فيها، ويوجد بها الشجرة التي استظل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها أثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ولما تبيّن، بعد أن ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليق على هذا التصريح، أنّ «السخنة» تابعة لدائرة أخرى غير دائرة المرشح، جاء التبرير: «لا أتكلم عن دائرة ضيقة، بل عن مفخرة وطن ضمّ آلاف الصحابة والعلماء والشهداء من العقبة إلى الرُمثا مروراً بكل محافظات الوطن».
وفي حين راح «مؤرخون» و»أكاديميون» يؤكدون الحادثة، مضى غيرهم ينفونها، ويوضحون أنّ «من بات في الزرقاء هو (الكافر) أبو لهب وابنه الكافر عتيبة بن أبي لهب حيث أكله الأسد بعد أن دعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم». وقال آخر إن «القصة لا أصل لها ويتعين التحذير من تداول (الإسرائيليات)».
ويستعيد هذا السجال علاقة الدين بالسياسة، واستثمار الأول لخدمة الثانية، إذ يدرك المرشحون البالغ عددهم زهاء 1269 مرشحاً ومرشحة، أنّ الدين، أو «التديّن الشعبي» في شكل أدق، سمة طاغية في المجتمع الأردني، لذلك راحت غالبيتهم، بمن فيهم علمانيون وأنصار للدولة المدنيّة، يوشّحون بياناتهم الانتخابية بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال دينية، لظنّهم أنّ ذلك يضمن لهم أصوات الناخبين الذين يبحثون (وهذا أمر غير مُثبت) عن نزاهة ومصداقية النواب الذين سيُجلِسونهم تحت قبّة البرلمان.
إنّ المرشح عن دائرة انتخابية بات النبي الكريم على مقربة منها، يرنو إلى إسباغ القداسة ليس على المنطقة، بل على عملية ترشيحه، ما يستبطن دعوة الناخبين إلى الإدلاء بأصواتهم له باعتبار ذلك واجباً دينياً وأمراً شرعياً، ما يذكّر بالكيفية التي قَرَن فيها بعض فقهاء السلاطين طاعة الله ورسوله بطاعة «أولي الأمر»، أي الحكام والقادة، بحيث صار الخروج عليهم ضرباً من الكفر والفتنة والانسلاخ عن الشريعة.
وإن حضر الدين في هيئة زعم تاريخي عن مبيت النبي في منطقة «السخنة»، فإنّ مرشحة ضمن قائمة انتخابية وضعت عوضاً عن صورتها باقة من الورد، لظنّها أن صورتها ربما تكون «عورة» وأنه لا يتعيّن لها «شرعاً» أن تنكشف على الجمهور الذي راح يحوّل الأمر إلى مادة ثرية للسخرية بأن وضعوا باقة ورد مكان «النائبة» في البرلمان، ودعوا إلى انعقاد الاجتماعات في الحديقة من أجل ضمان عملية التحلّل الكلوروفيلي!
وفّرت ولا تزال الانتخابات البرلمانية الأردنية «التي توصف بالتاريخية» مادة دسمة للتندّر، وكشفت عن طاقة كامنة لدى الأردنيين في ابتداع السخرية والكوميديا التي وجدت ميدانها الفسيح على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
لكنّ الذي لم توفّره ولم تعكسه هذه الانتخابات هو التغيير وتجديد الآليات والعقول. وكيف لذلك أن يتحقّق ما دامت «النخب» منكفئة عن المشاركة في «العرس الديموقراطي!»، وما دام الميدان مشرعاً أمام التجّار وأصحاب رؤوس الأموال ورجال ونساء دين لا يرون في الحاضر إلا بوصفه ماضياً، ولا لوجه المرأة إلا باعتباره «عورة»، ولا للدين سوى أنه «يافطة» يرفعها الجميع بمن فيهم تجّار سلاح ومخدرات؟!.