ما قبل الدولة
المشهد السائد ما قبل الدولة، يمكن أن نقرأ عنه في كتاب أو نشاهده في مسلسل درامي، يقدمان لنا كيف كان المجتمع قبل مئة عام. لكنّ شبابا يحملون هواتفهم الذكية صوروا ذاك المشهد واقعاً حيا قبل أيام فقط، ونشروه لنا على مواقع التواصل الاجتماعي!
القصة على النحو التالي، لمن لم يشاهد الفيديو: عشرات الرجال يطلقون الرصاص الكثيف من أسلحة أتوماتيكية، في تحد صارخ للدولة، ولاسيما مؤسساتها المعنية بضبط انتشار السلاح بين أيدي الناس. والغريب أكثر أن المناسبة ليست سوى افتتاح مقر انتخابي لمرشحين سيشرعون للأمة قوانين "دولتها"، من بينها ربما القانون المعدل لـ"الأسلحة والذخائر" الذي يضبط اقتناء وحمل السلاح خارج منتسبي أجهزة الدولة.
رجال يحملون أسلحة يطلقون منها النار كيفما اتفق، في احتفال عام بمناسبة يفترض أن مخرجاتها تكرس فكرة دولة القانون والمؤسسات، هي صورة صادمة؛ تقول لنا إن أمامنا الكثير من العمل، وعلى امتداد وقت طويل، لتجذير هذه الفكرة، والانتقال بالمجتمعات إلى مرحلة جديدة تنسجم مع العملية السياسية التي يحتفل بها من ظهروا في ذاك المشهد المصور.
أكثر من فيديو تم تداوله خلال الأيام الماضية، تفضح لنا كم فشلت الدولة في تطبيق القانون، بما يمنع إبقاء السلاح في أيدي العامة، ناهيك عن استخدامه ولو أداة استعراض. ولتكون النتيجة الوحيدة هي طعن فكرة تطبيق القانون، عموماً، في مقتل.
إذ بين نشأة دولتنا التي يُفترض أن تحتكر وحدها حق امتلاك السلاح، وانتشار الهواتف الذكية التي توثق نقيض ذلك، مرت عقود طويلة، سمعنا خلالها خطابات رنانة عن ضبط السلاح. لكن يتأكد لنا اليوم أنها كانت فقط خطابات لغايات الاستهلاك الإعلامي؛ فالأسلحة الأتوماتيكية خصوصاً، بقيت بين أيدي الناس حتى اللحظة.
لشدة الاستفزاز الذي يسببه فيديو يوم أمس، أصدرت مديرية الأمن العام بيانا عاجلا، قالت فيه إنها "باشرت التحقيق في عدد من الفيديوهات التي تداولها ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر أشخاصا يطلقون عيارات نارية أثناء افتتاح مقرات انتخابية لبعض مرشحي الانتخابات النيابية". وأوضحت المديرية أن "التحقيق يشمل التأكد من صحة مضامين الفيديوهات بما في ذلك مكانها وزمان حدوثها والأشخاص الظاهرين فيها"، وأنه "بعد التأكد من صحة تلك الفيديوهات ومكانها وزمانها فإن كل من ظهر فيها يطلق العيارات النارية سيعتبر مطلوبا للعدالة وسيتم ملاحقته قانونيا وإداريا".
الأمن قال بالحرف في بيانه، إن مديرية الأمن العام "لن تتهاون مع مطلقي العيارات النارية وستتخذ كافة الإجراءات الرادعة لمثل هذه الأعمال الخارجة على القانون التي تهدد حياة المواطنين".
بصراحة، ما خرج عبر الفيديو الجديد مقلق حد إثارة الرعب، ويمكن تعميمه على جميع مناطق المملكة؛ فما ظهر ليس استثناء أو كسراً للقاعدة، بل الجديد أو المختلف أنه قد تم تصويره. إذ تتضخم هذه المشكلة خارج العاصمة وفي المحافظات الأخرى، ما يستدعي تنبيه مسؤولينا، مجدداً، أن الأردن ليس عمان وحدها، بحيث تبقى عيونهم عليها وحدها دائما، ليس في موضوع السلاح فحسب، بل بشأن مختلف القضايا التنموية والمعيشية وغيرها.
التحدي الآن كبير، لأن الأمر فُضح. فالسلاح في البيوت، وأصحابه استخدموه في افتتاح مقار انتخابية، ويمكن لهم استخدامه في أوقات ومناسبات أخرى ربما تكون عصيبة. فهل ستتمكن الجهات المعنية من ضبط هذه الأسلحة؟ وهل سيقدم كل المخالفين للقضاء، بغض النظر عن هويتهم؟ وهل سنشاهد فيديو تصوره الأجهزة المعنية، يؤكد ضبط ما تيسر لها من سلاح؟ كل هذه الأسئلة ما تزال برسم الإجابة