ذهنية المغارة

في معظم الثقافات الإنسانية المعاصرة هناك مساحات للوهم وللغيبيات، وأكثر هذه المساحات تعقيدا تلك المرتبطة بأوهام الثراء السريع، التي عادة ما تدور حول الكنوز والدفائن المخفية تحت الأرض والتي تنتظر من يكشف عنها في يوم ما، ولعل مجتمعنا واحد من أكثر مجتمعات الأرض هوسا بفكرة الثراء السريع، ومسكون بهاجس المغارة والكنوز التي تطير العقل وفي كل مرة يطير العقل ولا تحضر الكنوز.
وفي الوقت الذي لا يمكن إنكار أن قطاعا اقتصاديا في عالم الاقتصاد الخفي يشتغل على الدمج بين تجارة الآثار المهربة والمسروقة والبحث عن الدفائن، وهذا القطاع أشبه بالعصابات المنظمة، لهم أسواق ومواقع على شبكة الانترنت، فإن مجتمعات وأسرا تقع كل يوم ضحية هذا النوع من النصب والاحتيال. ولعل ما شهدناه أردنيا خلال السنوات الخمس الماضية يحتاج إلى مراجعة تشريعية جريئة إلى جانب المزيد من الوضوح الرسمي في التعامل مع هذا الملف.
ثمة قدرة عجيبة في سيطرة ذهنية المغارة على الناس في مجتمعاتنا. وهذه الذهنية لها سحر لا يفرق بين كبير ولا صغير ولا متعلم أو غير متعلم، ولا تميز بين عامل بسيط وأستاذ الجامعة، إنها غواية من نوع آخر تكشف حجم مساحة الوهم في التنشئة الذهنية للأفراد وحجم الخراب الذي ألحقته النظم التعليمية ومؤسسات التنشئة وما تنطوي عليه هذه التنشئة من ثقافة تبريرية وخيال محبط. الوجه الآخر حجم ما تتعرض له المواقع الأثرية من تخريب ودمار جراء فتك هذه الذهنية.
على المستوى الشعبي ترتكب كل عام مئات الجرائم بحق الثروة التراثية من خلال ذهنية المغارة التي تسكن عقول آلاف من الأردنيين، ولدى كل منا عشرات القصص على المصائر التي وصل إليها الحفارون والباحثون عن الدفائن من مشاكل وإفلاس إلى جانب الجرائم التي ارتكبوها أو ارتكبت بحقهم، ثمة خيال شعبي ثري بالخرافات التي لا تتوقف فيما يد القانون التي يفترض أن تضع لهم حدا غائبة، أما جهود التوعية فهي غير موجودة.
لقد آن الوقت لإعادة النظر في قانون الآثار العامة الذي ما يزال يعرّف الأثر بما يعود فقط إلى عام 1700 ويتجاوز مراحل مهمة من تاريخ البلاد وتراثهاـ كما لا يوفر الحماية الحقيقية لما في باطن الأرض من آثار ولقى، ولا يوفر الحماية القانونية الحقيقية للمواقع الأثرية التي طالما اعتدى عليها باسم الاستثمار وحتى من أجل تشييد مبان عامة وغيرها. ولعل هذا الواقع يدعو إلى ضرورة التفكير جديا بإنشاء مجلس وطني للآثار والتراث يعيد مأسسة إدارة التراث الوطني وحمايته وسبل الانتفاع منه واستدامته بالاستفادة من الخبرات الأردنية وتوسيع قاعدة اتخاذ القرار في هذا المجال الحساس والمهم.
لم يتوقف تهريب الآثار؛ هناك تجار على المستوى الدولي ينشطون في مواسم ولهم وكلاء محليون، ومؤخراً ظهرت مرات آثار أردنية على مواقع لمزادات الآثار العالمية على شبكة الانترنت، أما الآثار التي أخرجت في الفترات السابقة فلا يوجد لدينا حتى توثيق واضح وإحصاء بأعدادها وأماكن وجودها سوى الأمثلة الشهيرة؛ والأهم أنه حتى المتاحف الوطنية مؤخرا تعرضت للسرقة.
الوجه المريب لهذه التجارة يتمثل فيما يكتنفها من خداع وتزييف وما توقعه من ضحايا، صحيح يوجد في كل بلاد الدنيا هذا الشغف بالبحث عن الدفائن والآثار، ولقد جسدت السينما العالمية العديد من الأفلام لهذا الغرض، لكن لا يوجد مثل مجتمعاتنا طواعية في الخضوع للانخداع.