بين السامبا وعرس الدم: رمح القدر للمسيح وميدالية الخراب للفودكا!

يا أيها الناس: لقد رأيت القاتل! كان هناك يتلصص من شرفة قصره الذهبي في «عاصمة النافورات» على ستاد «ماراكانا»، برأسي عقاب أشبه بغراب، وتاج ممهور بإمضاء القياصرة، يتناول «الإسبرسو» المطعمة بنكهة «الفودكا» برفقة «جستنيان»، ويطلب منه سُلفة «تحت الحساب» لتسديد ديونه التاريخية لبني ساسان، وحلفائه من عبدة الهياكل والحيطان، وينبش أنفه متلكئا كلما سأله «جستي» عن أنباء التمرد في القسطنطينية، ومهاراته السالومية في أداء رقصة السامبا، وفهلوته في نغنشة النمور أمام عدسات الكاميرات !
هناك في البرزخ، يعيش القاتل متأرجحا بين جنتين من نخيل عراقي وياسمين دمشقي، وبحيرة بجعات سود وسبع بوابات لجهنم، فهل القاتل بشر مثلنا أم وريث أولمب؟
إن كنت لم تسمع برمح القدر فهذا يعني أنك لم تشاهد «بي بي سي» العربية ليلة القبض على هتلر، وربما تمط لسانك بالشتيمة من غضب أو تركل الأرض بقدميك إثر نوبة قهقهة ساخرة لما تعلم أن كبار القادة العسكريين في التاريخ شنوا الحروب ودمروا المدن وقتلوا الأبرياء من أجل التنافس على ملكية تعويذة تاريخية موروثة هي: الخرافة! إن لم تصدقني بعد، تعال معي إلى «بي بي سي»!

إكسير الدم

حكاية الرمح لم تبدأ مع هتلر، فقد سبقه شارلمان، الذي أوهم التاريخ أنه كسب معاركه ببركته، مما دفع نابليون لغذ الحروب وسن العروق قبل السيوف ليحظى به ولكن دون جدوى، حتى سرق منه هتلر حلمه، وهو يناغي مقولته: «التاريخ صيغة لما حدث في الزمن الماضي وقرر الناس أن يتفقوا عليها»…. فهل اتفق أباطرة الحرب على الخرافة؟
الفيلم الوثائقي «صائدو الأساطير» يعرض مشاهد تمثيلية لسقوط النمسا عام 1938 في قبضة هتلر، الذي سطى على أثمن كنوزها: رمح القدر، وهو الرمح الذي سدده جندي روماني – شبه ضرير- إلى خاصرة المسيح المصلوب حتى يتثبت من موته، فرد دم المسيح إليه بصره، لتتحول الحكاية إلى أسطورة للعنة أكثر منها تعويذة للبركة، خاصة أن ما بذل في سبيل اقتنائها يثير الريبة بالقدسية إن كانت مستوحاة من الدم أم من الرمح؟
صمم النازي شعار حزبه على غرار صليب الرمح، الذي أخفاه في قبو تحت الأرض مع ثروة فنية هائلة سرقها من أعظم متاحف أوروبا، قبل أن يشي به أحد الجنود الأسرى الألمان للأمريكان، الذين هرعوا لسرقة تعويذة النصر قبل أن تعود للمتحف مجددا ويجري علماء الآثار والتاريخ عليها اختباراتهم العلمية، التي ستكشف فيما بعد أنه لم يكن ذات الرمح وأن التاريخ الحقيقي له بدأ عقب ثمانية قرون من قتل المسيح! من ستصدق في هذه الحالة: أبا تمام وقد انحاز للحربة على المعرفة؟ أم سيغموند فرويد، الذي اتخذ من الهستيريا إكسيرا علاجيا للخرافة! حسنا إذا: أين هي الحربة الحقيقية التي ارتوت من دم السماء؟

سوق العبيد

الأمر لا يحتاج إلى نباهة، خاصة بعد أن تتابع حلقة «الاتجاه المعاكس»، التي ضمت أغبى ضيفين عرفهما تاريخ البرنامج: الخرافة، والتعويذة المزيفة، أما الضيف «الخرافة» فقد برع بتزويد المشاهد بأرقام وهمية ومعلومات افتراضية وشهادات مضللة، وأساطير تلقفها من نقطة التباس الوهم بالتهيؤ ليتحول إلى كائن هلامي يشق طريقه إلى الفراغ بفارق ارتدادي بينه وبين خصمه، الذي كشف الحوار زيف تعويذته حين اضطر للتعبير من عدم الرضى عن تصريحات بوتين باعتبارالصهاينة شركاء له بالقضاء على الإرهاب في سوريا!
نسي صاحب التعويذة أن التصريح الروسي لا يؤدي واجبا اجتماعيا أو يجامل بإكرام ميت، إنما يعبر عن إصرار تاريخي على موقف وخطة استيراتيجية وتحالف إيديولوجي وتكتيكي بين الروس واسرائيل، ومجرد عدم الرضى لا يكفي الاستنكار ولا يشفي غليل الأعذار اللازمة لاستهبال المشاهد، بالتالي لا يعفي المشاهد من تأمل البلاهة للخروج من جلسة المساج التبريري، الذي يمارسه هؤلاء لدوزنة الارتخاء في عضلتي الجمجمة والقرنية! فسلم لي على الغباء أيها المشاهد، وقل للتاريخ أن يستحي (على حالو)، ويكف عن فتح فروع جديدة لسوق العبيد، وليأخذ دروسا خصوصية من المثل الشامي العريق الذي فضل شراء العبد على تربيته، بفارق كربلائي بين خلفاء بني أمية وعصا المتنبي، التي هش بها الإخشيدي في مصر وهو يبكي حنينا إلى الحمداني في حلب !

«عمران» و«عبد الله» لا فرق !

كلهم قتلة، والقاتل يحمل صفاتا سلوكية شاذة، وهوية جندرية مربكة تؤرجحه بين زمرتين: الأبالسة والبشر، ومن لم يزل يتذكر منكم فيديو جماعة «نور الدين زنكي» المعارضة في حلب وهي تذبح طفلا فلسطينيا أمام الكاميرات بوحشية وتلذذ وحقد يشي بجريمة عنصرية قذرة – ربك وحده أعلم – أي انتهاكات جنسية أو نفسية أخرى سبقتها، أو تلتها، سيسأل نفسه حين يرى الطفل عمران دقنيش، ناجيا من قصف جوي للطائرات الحربية السورية والروسية على حلب: من أكثر جرائمية وبرودة: القتل من علٍ؟ أم الذبح وجها لوجه؟ ربما عليك أن تسأل جراحا ماهرا في هذا، فوحده من يستطيع أن يخبرك عن فلسفة الدم البارد في غرف العمليات أو غرف التحقيق، لا فرق !
ترى هل كان محمود درويش على حق عندما اعتبر أن الحرية الحقة هي تلك التي نشعر بنشوتها حين نرى من لا يرانا؟ درويش بلور فكرتة هذه بناء على اعتراف صريح وحاسم حين قال: «أنا الغيب»، ولكن ماذا عن عمران؟
لا أريد «تنشيف ريقك أيها المشاهد ولكنني أتمنى أن يسيل لعاب تأملك وأنت تتساءل إن كان عمران يبحث في عين الكاميرا عن المجهول أم أنه عثر على الغيب؟ هل كان ينظر إليها مذهولا أم مستنكرا أم معاتبا أم شاتما؟ أم ربما كان يجري حوارا سريا مع المسيح عن الفارق بين طعنة الخاصرة و عضة الذاكرة !
ذاب الثلج في قدح القهوة الروسية، ومات «جستي» وشبع موتا ولما يزل بوتين يتدرب على إرضاع الشهباء «بقرة النبي إبراهيم» صونا للخرافة!

فشرتم!

حلقة ما «وراء الخبر» في ذكرى محرقة المسجد الأقصى تختصر لك الوضع بأكمله، فعلي الدقباسي – رئيس البرلمان العربي السابق، والأب مانويل مسلم عضو الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة المقدسات، تشابكا بالذاكرة والتاريخ وهما يستعيدان حرب الخليج بين وجهتي نظر متوازيتين، فالأب مسلم يرى أن المقاومة هي الرسالة الأشرف وأن فلسطين بعد الشام أصبحت يتيمة، وأن الدعاية الصهيونية لها من يناصرها ممن خانوا عروبتهم وكانوا سببا في ضياع الأمة، بينما يرى الدقباسي أن الشعارات هزمت الأمة وأن الخليج دفع مبالغ طائلة للقضية الفلسطينية التي انتهى بها المآل للتصفية في حروب تمعيط الشوارب، وأنه كشاهد عيان على مؤتمرات القمم العربية يعترف أنها في كل اجتماعاتها تمخضت عن ذات النتيجة فالطرف الفلسطيني يقبض والمقاومة تكتفي بدغدغة المشاعر والخليج يسدد الفاتورة، فهل ننكس أعلامنا في ذكرى المحرقة؟ أم ننكس سماواتنا؟ أم أن المصاب الحقيقي الذي تُنكس له الأعلام هو الإعلام؟!
أيها المشاهد، هُسْ …. قف دقيقة صمت على القمة، وحين ينتهي العرض اطلب من خديجة بن قنة ألا تستهل حلقتها بغولدا مائير إلا وهي توشوش لأحفاد نيرون كلما هللوا ابتهاجا للرماد: فشرتم! ثم تختم ما وراء الخبر بلقطة شريرة للماغوط: «وطني أيها الذئب الملوي كالشجرة إلى الوراء : إليك هذه الصورة الفوتوغرافية!

ميدالية الخراب

أطفأت البرازيل شعلة كرنفالها الرياضي على إيقاع رقصة السامبا وتحت وابل من الأمطار الناعمة والألعاب النارية المبهجة، وبعيدا عن سماءاتنا العربية المدججة بالطيخ طاخ، كان الملعب في ريو دي جانيرو يعج بالفرح والذهب وأكاليل الضوء وأشعة الليزر وحوريات ساخنات وطازجات كأنهن تنزلن من الجنة على حوض الأمازون فوق أجنحة الملائكة التي تدفقت من قنديل القمر لتغني للحياة، وشمبانيا فوارة كفوهة سحابة حديثة الولادة، ونجوم بالونات وكاميرات وصور صور صور، وشاشة عرض بحجم السماء، فأي خيمة هذه التي تصير أما لحضن العالم؟
على المنصة المقابلة هناك جثث وموتى وقنابل وطائرات وغارات وبراميل مفخخة وآلهة حرب تمارس الحب مع الجحيم فتنجب كرنفالا للدم ومسرحا للعبث ومخيما للعدم… هنا حلب، التي يجتمع العالم بأسره فوق ترابها ليؤدي رقصته الوحشية: الخراب!