خواطرالمسافر.. مستمرة!

في هذه الولاية «نيومكسيكو « التي كانت جزء صغيرا من حضارة جرى التعتيم عليها وعلى شعوبها ردحا طويلا من الزمان واشيعت بدلا من ذلك خرافة أمريكا او العالم الجديد وماهو بجديد قط بل قديم قدم كل القارات في الكرة الارضية ، فكما قامت الحضارات الاخرى قبل عشرة آلاف سنة بازدهارالزراعة ونشوء التجمعات البشرية في مناطق مابين النهرين او وادي النيل أو جنوب الصحراء الافريقية الكبرى او في وادي النهر الأصفر شمال الصين او نهر يانغتزي جنوب الصين قامت هنا ايضا مجتمعات المايا ثم الازتيك ومن الجدير بالذكر ان المرأة /الأم هي التي يعود لها الفضل في تدجين وتوطين حبوب الذرة كمصدر ثابت للغذاء لأول مرة في التاريخ بعد ان كان الاعتماد المتقطع على الصيد وجمع الأعشاب و الثمار.


في مدينة لاس كروسس في هذه الولاية مازلت استجم في هدوء عز نظيره في المدن، وأنعم بسكينة نفسية حاضنة للصفاء الذهني دونما استرخاء او كسل فالرياضة الصباحية والقراءة المتنوعة تطلقان الطاقات الضرورية للتأمل والاستمتاع. أجلس في الحديقة الواسعة أراقب طيور السمان صامتا بلا حراك حتى لا أفزعها فتختفي من امام ناظري ، وبعد قليل يأتي طائر يدعى ‹عدًّاء الطريق› متبخترا لان وزنه يقلل من همته في الطيران، اما اصغر طائر رأيته في حياتي فهو ‹العصفور الطنان› الذي يقبل على شجيرات الزهور ليمتص رحيقها ويطلق مع رفيف جناحيه طنينا مميز النغم، وفي ركن مظلل الحديقة تقبع السلاحف ولا تخرج الا لتلتهم وريقات من الخس ألقيت لها،أما الأرانب البرية فلا تلبث على البساط الأخضر إلا لحظات قليلة تلتقط فيها ما تقضمه من أعشاب وعند انتباهها لأول حركة حولها تقفز مسرعة الى فتحات في باب السور الخلفي لتهرب الى الحقول.. والصحراء ! وفي هذا الجو الأليف مع تلك الكائنات البرية تذكرت طفولتي وحاكورة البيت سواء في إربد أو مادبا أو عمان حيث ربينا مثيلات لها كالحمام والدجاج والأرانب وحتى السلاحف، وفيما كانت القطط تتجول داخل البيت كان كلب الحراسة الأمين يحوم حوله، و الغزلان التي كان والدي يأتي بها من الصيد لا تلبث أن تفر الى..الحرية !

لفت نظري في الحديقة عدد من المصابيح الصغيرة موزعة في أنحائها دون أسلاك تربطها بالتيار الكهربائي وتبيًن انها تعمل بالطاقة الشمسية التي تمتصها في النهار مرايا مساحتها سنتمترات قليلة لتضيئ تلقائيا بعد حلول الظلام ولا يزيد ثمن الواحد عن بضع دولارات ما ذكرني بما كتبت قبل شهور عن»اللمبات» التي صدقنا انها موفرة للطاقة واستعملناها بسعرها المرتفع لسنوات وكانت تحترق بعد فترة قصيرة الى ان اكتشفتها مؤسسة المقاييس والمواصفات فمنعت تداولها واستيرادها !

وبمناسبة الحديث عن الطاقة فقد قرأت وانا قادم في الطائرة عن طريق لندن في صحيفة الفاينانشال تايمز البريطانية المؤرخة في ٢٠١٦/٧/٢٦ تقريراً مطولا عن مستقبل الطاقة في العالم بمصادرها التقليدية كالنفط والغاز والفحم التي بدأ استغلالها واستخدامها يتضاءل تدريجياً ولم يذكر شيئاً عن الطاقة النووية لكنه أسهب في الحديث عن الطاقات الجديدة الآمنة المستدامة وفي مقدمتها الطاقة الشمسية التي بدأت بفضل التكنولوجيا التي تتطور بسرعة فائقة التغلب على صعوبات التخزين كي يستمر توزيعها طوال الليل والنهار وذلك بتجميعها في نوع جديد من البطاريات وإيصالها في شبكات قادرة على إستيعاب الأحمال الكبيرة، وانتهى التقرير الى ان ثمن كيلو واط الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية واصلة الى المستهلك قد هبط الان الى٣سنتات ، وأين ؟ في دبي! وهو ثمن لم يخطر إلى ما قبل سنوات قليلة ببال أشد المتحمسين لهذا النوع من الطاقة.

وفي نفس الحديقة في المساء تحلّقٓ الضيوف حول عشاء بسيط تحت ضوء القمر بجانب حوض السباحة ، تنوعت فيه الأحاديث بين أربع أستاذات جامعيات وزميلهن الخامس روائي مرموق وقد دار بعضها حول الكتاب الذي كنت قد بدأت بقراءته منذ ايام بعنوان « تاريخ الشعوب الأصلية للولايات المتحدة «An Indigenous Peoples› History Of The United States من تأليف روكسانا دونبار-أورتيز Roxanne Dunbar-Ortiz الناشطة في الحركة الدولية للشعوب الأصلية لأكثر من أربعة عقود وتعيش الان في سان فرانسيسكو وهي معروفة بإلتزامها طوال عمرها بقضايا العدالة الاجتماعية، الوطنية منها والعالمية، والدها من الفلاحين المستأجرين للأرض وأمها نصف هندية، ٠ولقد فتح الكتاب عينيّ على حقائق تاريخية كثيرة ومؤلمة تكشف ما فعله المستعمرون المستوطنون بتلك الشعوب إلى حد الإبادة وأحيانا تحت راية الكنيسة..!

وبعد..فرغم ما يحدث في العالم من ظلم وإظلام فإن هناك دائما من يسعون لجعله اكثر عدلاً وإشراقاً..