الشـكّ والتشكيك!

الشكُّ منهج مهمّ من مناهج الوصول إلى المعرفة والحقيقة، وقد اتبعه العلماء المسلمون وغيرهم قديماً وحديثاً لإثبات الحقائق، وجعلوا لاتّباعه أصولاً وقواعد مهمّة، ثمّ جاء الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الذي نسب إليه منهج الشكّ وقال «كلّما شككت ازددتُ تفكيراً فازددت يقيناً بوجودي».


وفي اعتقادي أن الشكّ شرطٌ أساسي في البحث العلمي، إذ لا يجوز للباحث أن يأخذ كلّ ما يقرأه أو يسمعه مسلّمات يبني عليها أحكاماً ونتائج، بل لا بدّ له أن يزن تلك المعلومات ويقلبها قبل أن يسلّم بصدقها. وفي رأيي أن الباحث الذي لا يشكّ في أدبيّات بحثه هو باحثٌ مشكوك في عمله.

وكذلك يقال عن جوانب الحياة المختلفة، فما دام يوجد بين الناس صدقٌ وكذب، وأمانة وغشّ، فلا مفرّ من الشكّ في الأشياء قبل تصديقها أو البناء عليها حتّى لا يقع المرء ضحيّة غشٍّ وخداع وكذب، ومن حقّ كلّ إنسان أن يشكّ في أيّ شيء ويتبع السبل التي يمكن من خلالها إزالة شكّه.

غير أن الشكّ غير التشكيك، فلا يجوز وأنت تمارس حقك في الشكّ أن تبادر باتهام الآخرين بالكذب والخيانة والغشّ قبل أن تتحقق من ذلك، لأنّ ذلك تشكيك واتهام قد تنال فيه من إنسان صادق وأمين وملتزم، وإنّما يكون الشكّ داخل العقل والنفس وليس على اللسان. أمّا التشكيك فليس من حقّ أحدٍ، لأنّه ينطوي على إساءة للشخص المتهمّ والمشكّك به.

وممّا يندرج في باب التشكيك ما يمارسه كثير من الناس في وسائل الإعلام المختلفة من التشكيك في انتماءات الناس وولاءاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم لمجرد أنهم سمعوا ذلك من ثرثار في أحد المجالس، أو قرأوا ذلك في صحيفة لم يكتب لها النجاح، أو في تعليق من شخصٍ أراد التسلية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أو غير ذلك.

وما زلنا نسمع في كلّ يوم وفي كلّ لحظة عن تهمٍ تكال لهذا الرمز أو ذاك، حتّى لم يبْقَ في أذهاننا رمزٌ واحدٌ يتخذّه الناس نموذجاً لهم، وكأنّ المقصود من مثل هذه الحملات من التشكيك والاتّهام هو حرمان أمّتنا وشبابنا والأجيال الناشئة، من نماذج يقتدون بها ويحذون حذوها.

ولذلك، فإنني أرى أن الإسراع في اتهام أي شخص أو التشكيك به من غير دليل أو معرفة حقيقية جريمة كبيرة تضرّ بالناس أفراداً وجماعات وتلحق الأذى بروح الأمّة وروح شبابها وناشئتها.

إنّ الشكّ أمرٌ ضروري لنجاح المجتمعات وتقدّمها، بينما التشكيك مصدرٌ من مصادر الخطر والإضرار بالمجتمع، وإن انتشاره في أيّ مجتمع أو أمّة هو علامة من علامات التخلّف وعامل من عوامل انهيار المجتمع وتراجعه وسقوطه.