عودة إلى الصندوق !

أصبحت المسافة بعيدة جدا بين منطلقات التفكير داخل الصندوق وخارجه، ومع قناعتي الأكيدة بأننا لن نتمكن من حل مشكلاتنا التي لا يخلو منها قطاع من قطاعات الدولة، إلا أنني أدعو إلى العودة للصندوق ليس من أجل البقاء فيه، بل من أجل إقناع من لم يقتنع بعد أنه قد ضاق علينا حد الاختناق !


ليس من المعقول ولا المقبول أن نتراجع إلى الخلف ولا بخطوة واحد، فلم يعد وراءنا خلف، ولسنا نتحدث الآن عن فشلنا في التقدم إلى الأمام ، بل عن تراجعنا عن النقطة المتقدمة التي وصلنا إليها في بناء مؤسساتنا العامة والخاصة، حتى كنا ذات يوم مضرب مثل لدولة القانون والمؤسسات ، والدولة القادرة على الانتصار على شح مواردها، والظروف الإقليمية التي تحيط بها، لكن الصندوق كان واسعا بما فيه الكفاية.

أكبر دليل على ذلك هو ما نشاهده اليوم من بنية تحتية كانت ممتازة، ومشروعات واستثمارات كانت واعدة ، وقوى بشرية كانت مبدعة ، فقد كنا قادرين على تحدي المستحيل، لمّا كانت السياسات ترسم على أعلى مستوى من التخطيط والخبرة والعزيمة الصادقة ، والهمة القوية، ولمّا كانت العلاقة بين القطاعين العام والخاص علاقة تكاملية وليست نفعية !

من بين القطاعات التي تتراكم مشاكلها، وتتزايد مخاطرها قطاع التعليم بكل مراحله، فقد كان القطاع في مجمله قطاعا حكوميا مع استثناءات قليلة لمدارس خاصة رسمت خطتها لتتساوى مع المدارس الحكومية، وكان هناك عدد قليل من المدارس الخاصة التي تعيد تأهيل الطلبة الذين لم يتمكنوا من مسايرة التعليم الحكومي، والأمثلة كثيرة لكن المقام لا يتسع لها.

اليوم نستطيع أن نقيس الخط الواصل بين مدرسة رغدان أو مدرسة السلط في ذلك الحين وبين أي مدرسة حكومية الآن ، وبين الجامعة الأردنية في أول عهدها ، وبين الحالة الراهنة لجميع مؤسسات التعليم العالي العامة والخاصة ، لكي ندرك المأزق الذي نعيشه اليوم ، وطبعا مع احترامي لكل من سيقول: هذا وضع لا يقتصر علينا وحدنا ، وليسمح أن أقول من جانبي: ليس الأمر كذلك في الدول المتقدمة ، ولا في الدول التي جعلت التعليم في جميع مراحله منطلقا لتحقيق التنمية الشاملة، ولأهداف المجتمع وتطلعاته.

لقد كثر الحديث مؤخرا عن واقع الجامعات الحكومية، وتنامي المديونية عليها، وعن الأزمات التي تواجهها مؤسسات التعليم الخاص على مستوى المدارس والجامعات، وذلك على خلفية نتائج الدورة الأخيرة للثانوية العامة، والقاسم المشترك بينهما ليس فقط نوعية التعليم ، بل كذلك كلفة التعليم ، وهو ما يفسر مديونية بعض الجامعات الحكومية، وعجز بعض الجامعات الخاصة، والأخطر من ذلك كله هو غياب النظرة التكاملية للعلاقة بين القطاعين في نطاق الإستراتيجية العامة للدولة.

لست أوافق على من يحذر من أن الوضع الراهن من شأنه أن يدفع بعض الجامعات الخاصة إلى إغلاق أبوابها ، ذلك أن ربط مصير تلك الجامعات بنتائج الثانوية العامة لا يليق بها ولا بمكانتها، فهي ليست مصنعا، ولا مزرعة، وإلا كيف ندعي أن تساهم في التنمية وفي عملية النهوض إذا لم تكن قادرة على تنمية ذاتها، وحل مشكلاتها، ومواجهة الأزمات التي قد تتعرض لها ؟.