"هموم" الإسرائيليين

أخبار البلد - 
مرّت في الأيام القليلة الماضية، ذكرى خمس سنوات على اندلاع ما وصفت في حينه بـ"حملة الاحتجاجات الشعبية الإسرائيلية" على غلاء المعيشة. تلك الحملة التي حافظت على زخم لثلاثة أسابيع، قبل أن تضمحل كليا في الأسابيع الثلاثة التالية. وفشلت كل المحاولات لاستنهاضها لاحقا. فرغم أن كلفة المعيشة ارتفعت الآن بأكثر مما كانت عليه في حينه، إلا أن الشارع غارق في سبات. ولكن هذا يعني دحرجة الأزمة وتأجيل انفجارها، وليس لأمد بعيد.

فقد انفجرت تلك "الحملة" بمبادرة فردية في تل أبيب، احتجاجا على أسعار السكن والإيجارات. ثم تبعتها الاحتجاجات على كلفة المواد الغذائية. وسرعان ما تحولت تلك المبادرة، التي بدأت بخيمة نصبتها صاحبتها وسط أحد الميادين، إلى حملة شملت مئات الآلاف. وانحسار الاحتجاجات بداية في هذين العنوانين لم يكن صدفة، إذ إن كبار حيتان المال، كانوا وما يزالون يطالبون بأن تحرر حكومتهم أراضي للبناء بسعر شبه مجاني، لأغراض مشاريع إسكانية، بزعم أن ارتفاع أسعار البيوت ناجم عن أسعار الأراضي. في حين طالب مستثمرون كبار بفتح الأسواق لاستيراد المواد الغذائية لمنافسة الاحتكارات التقليدية. بمعنى أن "الحملة" إياها خدمت مصالح حيتان المال في ذات الوقت.
وحصر عناوين الحملة بهذين البندين، طرح أسئلة حول مدى جدية تلك الحملة، لأن أسباب كلفة المعيشة عديدة، وأسباب الفقر أوسع بكثير من هذين البندين. ولاحقا حينما انضمت قوى سياسية واجتماعية لقيادة الاحتجاجات ولتطرح باقي القضايا الأعمق، بدأ التحريض على الحملة من وسائل إعلام مركزية، ما ساهم في تراجع الحشود عن المشاركة في المظاهرات. إضافة إلى أسباب أخرى ساهمت في هذا التراجع لا مجال للتوسع فيها.
ويُسأل: هل حقا الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية تقف على رأس "هموم" الإسرائيليين؟ فلو عدنا إلى نتائج استطلاعات الرأي التي تظهر تباعا، لوجدنا الجواب إيجابيا. لكن على أرض الواقع فإن الصورة مختلفة كليا، ومن يحسم في كل واحدة من الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية هو الجانب العسكري، والسياسات اليمينية المتطرفة، ولهذا أسبابه.
لقد اهتمت الصهيونية منذ النكبة، بضمان مستوى معيشي مرتفع لليهود في كيانها، وبشكل خاص في التجمعات السكانية الكبرى، لضمان جذب أعداد يهود أكبر من العالم إلى فلسطين. واستخدمت الحكومات كافة الأدوات لتطبيق الهدف على أرض الواقع، وبالذات من خلال توزيع موارد يميز لصالح اليهود وضد فلسطينيي 48، وبفجوات هائلة في جميع نواحي الحياة، وبالذات في فرص العمل وجهاز التعليم.
وتشير كل تقارير الفقر والبطالة إلى أن معدلات الفقر بين اليهود، من دون المتدينين المتزمتين "الحريديم"، الذين يعيشون حياة تقشفية إرادية، مشابهة لمعدلات الفقر والبطالة في الدول الأوروبية المتطورة. ففي حين أن نسبة الفقر بين أولئك اليهود 8 %، فإنها بين فلسطينيي 48 تقفز عن 50 %. وفي حين أن نسبة البطالة بين اليهود بالكاد
3.5 %، فإنها بين فلسطينيي 48 تقفز عن 21 %. وكذا أيضا فيما يخص معدل الفرد من الناتج العام، ففي حين أن المعدل العام للفرد 34 ألف دولار، فإنه لليهودي يقفز عن 38 ألفا، مقابل أقل من 11 ألف دولار للفرد من فلسطينيي 48.
رغم ذلك، فإنه على الرغم من الزيادة المحدودة في أعداد الهجرة إلى إسرائيل، لتتجاوز 25 ألفا سنويا، وبالذات من فرنسا في السنوات الثلاث الأخيرة، بفعل العمليات الإرهابية من أوروبا، فإن الصهيونية تجد صعوبة في استقدام مئات الآلاف، لعدة أسباب، أبرزها أن 90 % من اليهود في العالم يعيشون في أوطانهم بمستوى معيشي أعلى من إسرائيل.
وواقع الحال لا يعني زوال الأزمة، بل على العكس تماما، فإن كل التقارير الاقتصادية بعيدة المدى، تحذر من المستقبل الاقتصادي، فالاقتصاد الاسرائيلي يواجه في السنوات الثلاث الأخيرة نسبا أقرب إلى الركود، إضافة إلى أن محركات اقتصادية أساسية تواجه جمودا وحتى تراجعا، خاصة في صناعات التقنية العالية. ويضاف إلى هذا، أن تقلبات التركيبة الديمغرافية اليهودية، والارتفاع الحاد في نسب المتدينين المتزمتين، من شأنها أن تلجم النمو الاقتصادي، وتزيد أعباء الخزينة العامة. إضافة لأسباب أخرى، تؤكد أن الأزمات الإسرائيلية الداخلية، ومهما نجحت الحكومات الحالية في دحرجتها، ستنفجر في وجه المشروع الصهيوني، لربما في غضون سنوات ليست كثيرة.