التأجير والبيع القسريين للأدمغة
الدولة تقرر وتقونن وتشرعن ما يحلو لها ويتوافق مع الهدف المالي الذي تسعى لتحقيقه. كما أنها تمارس نهجا قائما على القسرية التي تستأجر الأدمغة وتشتريها دون مقابل. والنهج هذا لا تتوقع الدولة من خلاله أي منفذ للإحتجاج أو الرفض أو حتى التعديل والمراجعة وهي سمات فطر الله الإنسان عليها. وإن حصل تطبيق لأي من هذه السمات، يعد تمردا وخروجا على القانون وارتكابا لما حرمته الدولة وحلله الخالق. ولا تعديل ولا مراجعة نرى. وكل ما نراه هو التشدد والتضحية بصاحب النصيب لتصل الرسالة للآخرين. وقد حصل مؤخرا تراجع الدولة عن تشريع بتخفيض رسوم بيع العقارات 50% خلال أسبوعين من إقراره. قيل في البداية أنه شرع لتحريك عجلة سوق العقارات. واكتفت الدولة ذات القرارات الصائبة على الدوام بهذه المدة لأسباب لا يعلمها إلا الله وأصحاب الشأن والذين شرع القانون من أجل تنفيذ صفقاتهم. فما هو تبرير التراجع عنه أيتها الدولة؟؟
سياسة كهذه تعني تأجير العقول بل وبيعها ووقف ماكينة العمل والتفكير إذ لا ثمن ولا منفعة للمؤجر والبائع، بل تعطيل للخلايا المسؤولة عن التفكير وردة الفعل حتى يصبح الإنسان أي المواطن جسما متحركا فقط لا يملك أن يستخدم ما وهبه الله من دماغ ميزه عن باقي المخلوقات يستخدمه للتمييز بين الخير والشر والنافع والضار.
عند نجاح مثل هذا النهج المستبد والمصادر للعقول والمانع للتفكير وبالتالي مانع لحرية الرأي الذي يقود لمصادرة الحقوق، يصبح الإنسان عبدا طيعا لسلطة تعلوه ولو كره أو بهيما لكن مع السماح له بالإحتفاظ بشكله الدال على أنه إنسان ظاهريا.
نستذكر قيام النهضة أو الصحوة الأوروبية بعد أن كانت الكنيسة تصدر صكوك الغفران وتقرر دخول المستغفرين الجنة. لقد كان عصر الظلام في أوروبا إذ الكنيسة هي التي تقوم بالتفكير عن الناس وتقرر مسلكهم ونمط حياتهم وتحاكم وتمنع وتسمح. كل ذلك بعد أن ابتاعت العقول واستملكتها حتى الملوك لم يستطيعوا مقاومتها.
فجاءت الصحوة لشدة معاناة الناس والتضييق عليهم وكبت حرياتهم الممنوحة لهم من الخالق وبلغ الناس حدا لا يستطيعون تحمل إسفافات وتسلط الكنيسة التي سلبتهم إنسانيتهم وجعلت منهم عبيدا لا رأي لهم ولا وزن. كان عصرا ظلاميا عاشته أوروبا منع خلاله الدين المسيحي الحقيقي أن يصل للناس فعاشوا بفراغ روحي، حتى استفاق الناس من سكرتهم ليصحوا على الواقع المتخلف والإستعبادي الذي عاشوه بزمن مشوَّه.
كانت الحرية أول مسترجعاتهم إذ من خلالها أبدعوا وابتكروا وصنعوا واكتشفوا الأمراض وعلاجها واستعمروا الدول وفرضوا وجودهم بقوة عن طريق احترام رأي الفرد والجماعة. فهناك حرية التدين والإختيار والتشاركية مع الدولة باتخاذ القرار. فقرار لا يرضى به الشعب لن يعتمد رغم تحري هذه الدول وحكوماتها عن مدى الرضى الشعبي من خلال الإستفتاء والدراسة والتحليل.
لقد قامت الصحوة على ضرورة إطلاق العنان للأدمغة وتحررها من قيود الكنيسة وهي السلطة الحاكمة في الظل آنذاك. ثم سمحت هذه النهضة لعودة الإنسان الأوروبي لإنسانيته وممارسة حياته بالشكل الطبيعي الذي انفطر عليه ليبدع وينتج من خلال حرية التعبير عما يجول بخاطره وهي حرية قائمة على الإقتناع بالمسؤولية والتشاركية وليست حرية منفلتة، بل حرية تحكمها ضوابط وقوانين استوعبها الجميع ولا تقبل الإساءة للآخر سواء كان فردا أو جماعة أو سلطة.
تخلص الأوروبيون من السلطة الكنسية المهيمنة ليمارس حياته كإنسان حر ولينطلق نحو العلم والتنوير والإبداع حيث لا تنوير ولا إبداع ولا إنتاج بعيدا عن الحرية. عندها يكون الفقر هو السمة الغالبة والغبن مسيطر على المشاعر والإحتقان سيد الموقف بسبب تقصير الدولة ونهجها اللامرضي.
نحن في الأردن لا كنيسة تسير حياتنا وتعطل أدمغتنا ولا الإسلام يقف حائلا أمامنا للنهوض والصحوة حيث ماليزيا وتركيا مثالين ناصعين، بل هي السلطة السياسية التي تنتهج نهج التعطيل والكبح والقمع اللادموي. فنرى من بصف الدولة ويمتدح قراراتها ويصفق لها ويثني عليها ويتملق لها ولو على حساب كرامته ودينه نجده في الصف الأول ومن مقرري مصيرنا. ومن يبوح برأيه ولو من باب النصح للدولة وتنويرها وبقصد الحفاظ على الأمن والإستقرار نراه مبعدا ومقصيا أو خلف القضبان لا يقوى على الحركة.
يقول الفاروق عمر رضي الله عنه قبل قرن ونصف: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟؟" أي أن الله خلق الإنسان حرا بحدود تعاليم الدين الذي تسنده قوانين الدولة تنظيما وتطبيقا، ولا نقصد الحرية المطلقة بلا ضوابط بل الحرية الإيجابية التي تخدم المجتمع بنظامه وسلطته وأفراده. إن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين. ولا يجوز أن تنتهك الحرية وتجرد من معناها بكبتها وقمعها وهي حق إلهي، عندها نكون قد مارسنا التعسف والقهر وخالفنا الطبيعة والنظام الإلهي.
إذا الحرية أخافت السلطة، فذلك يعني وجود أن هناك من الخلل ما لا تستطيع الدولة كشفه والإقرار به. أما لو كانت على طريق الصواب، لرحبت بالرأي الآخر دون جزع. يتجلى الشعور الراقي بالمسؤولية في قول الفاروق: "من رأى مني اعوجاجا فليقومني". قول يدل على مخافة الله وعلى النية الصادقة في تحقيق العدل والإنصاف وهو أمير المؤمنين الذي يستشعر هموم الناس ولا يركن الأمر لمساعديه ومستشاريه.
فنهض أحدهم وقال: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا هذه" وفرح عمر وأثنى عليه لأن في رعيته من يجرؤ على مثل هذا القول لعمر الذي كانت تخور فرائس الرجال عند ذكر اسمه. كيف بهذا الرجل أن يقول ما قاله لولا أنه يعلم عدل عمر وورعه وحكمته؟؟
فتأجير العقول أو شراؤها وتعطيلها هو نفسه من سيذكر بالصحوة والنهوض لتصحيح الموازين المتبعة وهو ما حصل بأوروبا. والنهج القائم عى إقصاء العقل ومنع الحقوق ومصادرتها لا بد أن يكون المنبه يوما لصحوة أجارنا الله من تبعاتها. نسأل الله أن يديم علينا الأمن النافع والإستقرار المجدي.
حمى الله الأردن والغيارى على الأردن والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com