لا بأس: أحيلوهم على التقاعد..!!
حين كتبت امس الاول في هذه الزاوية عن الرسائل المفخخة بالانتقام التي تبادلها موظفون احيلوا الى التقاعد او جرى معاقبتهم ومسؤولون استخدموا صلاحياتهم او تعسفوا في استخدامها ، لم يخطر في بالي ابدا ان اتلقى عشرات المكالمات والتعليقات من القراء الاعزاء ، ومعظمها جاء في سياق الشكوى والاحتجاج ، لدرجة انني تصورت ان ميزان العدالة الوظيفية في بلدنا اختل تماما ، وان وراء كل ازمة او مشكلة نسمع عنها قصة "ظلم” ، حتى لو كان هذا الظلم مجرد احساس عابر او "وهم” لا يستند الى اية وقائع او دلائل.
حين دققت في خارطة الردود وجدت انها توزعت على مختلف وزارات ومؤسسات القطاع العام في بلدنا ، صحيح انها تختلف في حجمها وحدتها من مؤسسة لاخرى ، لكن هذا الاختلاف كان على صعيد الدرجة لا النوع ، اذ انها تنتسب في المجمل لاحساس عام واحد وهو غياب العدالة ، وجدت ايضا ان حصة وزارة التربية من هذه الردود حظي بنصيب الاسد ، فقد بدأت الوزارة فعلا منذ سنوات بحملة احالات على التقاعد وتنقلات ( آخرها قائمة التقاعد التي صدرت قبل نحو اسبوع) شملت الآلاف .
لا خلاف على ان الاحالات للتقاعد جاءت في سياق التخفيف عن كاهل جهاز الادارة العامة الذي يعاني فعلا من الترهل والحمولات الزائدة ناهيك عن العبث في موازين العدالة وتكافؤ الفرص ، ولا خلاف ايضا انها ضرورة لفتح ما يلزم من الشواغر الوظيفية لالاف الشباب من خريجي الجامعات الذين ما زالوا يبحثون عن فرصة عمل او وظيفة في القطاع العام ،لا خلاف ثالثا على ان اداء بعض الموظفين كان دون المطلوب ، وبالتالي فان احالتهم على التقاعد كان مفهوما ومطلوبا ايضا.
لكن هذه الوجبات المتكررة من الاحالات او حتى من العقوبات التي صدرت بحق بعض الموظفين ـ تعرضت لعمليات "سطو” اداري افقدتها المشروعية والثقة والصدقية ، كما افرغتها من اهدافها ومبرراتها احيانا اخرى ، يمكن هنا ان اتحدث بصراحة عن اسباب مختلفة ومتعددة تقف وراء احساس هؤلاء الموظفين بالظلم ، منها غياب المعاييروالمساطر الموضوعية ،و الاستناد الى تقارير ميدانية غير صحيحة اشبه ما تكون بالدسائس والوشايات ، خاصة ان ظاهرة ( الوشاية) تصاعدت في مجتمعنا لدرجة أن احدنا لم يعد يأمن على نفسه من اتهامه بما لا يخطر على باله من "موبقات " ،و لو سألت: كم واحدا منا تعرض ( للوشاية) في عمله، أو كم شخصا دفع ثمنا لنجاحه في موقعه ضريبة اخراجه منه بسبب زميل تحرر من أخلاقيات التنافس وفجر ضده في الخصومة،لوجدت المئات، وربما الآلاف ممن عانوا من هذه الكوارث اللااخلاقية ، لكن النتيجة يحسمها في النهاية ( المسؤول) هذا الذي يمكن ان يفتح آذانه ثم يقرر بناء على ما يصله من أخبار أو روايات قائلا : لا بأس احيلوهم على التقاعد ، أو أن يغلقها أمام مثل هذه الذبذبات فيدقق ويتحرى ويتحقق من صحتها.
في اطار هذه المقررات التي انحازت احيانا لمنطق المزاجية او الشللية او التعسف في استخدام الصلاحيات والسلطة ، يمكن ان نجد نماذج شاهدة وربما صادمة ايضا ، فثمة موظفون كبار تعدت خدمتهم ثلاثين سنة وما زالوا على رأس عملهم بسبب انهم يحظون بثقة المسؤول ، رغم انجازاتهم المتواضعة ، وادائهم الضعيف ، وربما تجاوزاتهم ايضا ، في المقابل ثمة اخرون سجلوا انجازات في مواقع عملهم لكنهم وجدوا انفسهم في قوائم التقاعد ، وكأنه لا مكان للانجاز او الابداع في "معايير " الادارة ، او كأنهم عوقبوا على انجازهم ، هنالك ايضا صنف آخر دفع ثمن مواقفه ، سواء الادارية او السياسية، الامر الذي افرز حالة من الشكوك والتذمرلدى الموظفين ، وبعث برسالة مفخخة فعلا بالانتقام ، مفادها ان المسؤول يمكن ان ينتقم من اي موظف باحالته للتقاعد اذا تجرأ على رفع صوته بالانتقاد او اذا غرد خارج السرب او اذا كان غير محظوظ بواسطة او بمسؤول مباشر يخاف الله.
قلت مرة انه لا يوجد في مجتمعنا حزب اكبر من حزب "اعداء النجاح” ، حيث يمكن ان تخطىء وربما تتجاوز صلاحياتك وربما يكون اداؤك ضعيفا "فيغمض” هؤلاء اعينهم عنك، لكن ما ان تبدأ "بالاصلاح” داخل المؤسسة التي تعمل فيها ، اوتسجل نجاحا في الاداء، اوتصرّ على الحفاظ على الموقع الذي انت فيه ليكون في خدمة الناس، حتى يتحرك على الفور اعضاء هذا الحزب ضدك ، لانهم يشعرون انك بانجازك تكشفهم وتفتح العيون على اخفاقاتهم وتجاوزاتهم، واخيرا تجد نفسك وقد صدر بحقك حكما عنوانه : "مت قاعدا” ، فيما غيرك من اعضاء هذا الحزب مؤبدون في وظائفهم.
اي رسالة هذه التي نبعثها لهؤلاء الذين يشعرون انهم لم يقصروا في عملهم ، ولم يستنفدوا طاقة العمل والانجاز لديهم ، ولم يؤمنوا على مستقبلهم برواتب تكفي التزامات اولادهم ، وهم يرون ان مكافأتهم على هذه الصورة ، حتى انهم لم يبلغوا بقرارات تقاعدهم بالشكل اللائق ، ولسان حالهم يقول : " احشفا وسوء كيله”، واي رسالة نبعثها لزملائهم الذين ما زالوا على رأس عملهم حين يرون ان الصلاحيات التي يتعسف بعض المسؤلين في استخدامها هي التي تقررمصيرهم الوظيفي دون اعتبار لموازين العدالة والشفافية ...والكفاءة والاستقامة ايضا.