أوروبا مازالت ديمقراطية
شكراً لألمانيا شعباً وحكومة وقضاء وإعلاماً ، وشكراً مماثلاً لفرنسا ، فعلى الرغم من معاناة الالمان والفرنسيين وتعرضهما مع العديد من الاوروبيين لعمليات إرهابية مست حياتهم وأربكت معيشتهم ، على يد مواطنين أغلبهم من المهاجرين العرب والمسلمين ، ولكنهم واصلوا تمسك الاغلبية الساحقة من الالمان والفرنسيين والبلجيك على التعقل والاتزان وعدم الانجرار نحو ردات الفعل العنصرية والعداونية نحو مواطنيهم من أصول عربية أو إسلامية ، سواء كان دوافع الارهابيين منظمة مرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش ، أو عمليات جنوح فردية وجامحة بإتجاه عقائدي عنصري متطرف .
في المانيا يعيش حوالي خمس ملايين مسلم تركي وعربي وإيراني وأفغاني وإفريقي ، وفي فرنسا مثلهم أكثر من ثلاثة ملايين ، ومع ذلك لم تصدر تشريعات أو قرارات ضد المسلمين والعرب وغيرهم ، وهذا يعود لسببين أولهما لأن القيم والتقاليد في أوروبا مازالت منحازة لحقوق الانسان وضد العنصرية ، وثانيهما لأدراك الاوروبيين أن الارهاب لم يقتصر على النيل من الاوروبيين والاميركيين ، بل هو إمتد لعندهم بعد أن أوغل قتلاً ودماراً في بلاد المسلمين والعرب في الباكستان وأفغانستان كما هو في الهند ، وفي العراق كما هو في اليمن ، وفي سوريا كما هو في ليبيا ، وهو يستهدف المسلمين أكثر من إستهدافه للمسيحيين ، ويستهدف السنة والشيعة على السواء ، فكلاهما يتعرض للتفجير في الاعراس كما هو في المأثم ، وفي المساجد كما في الاسواق ، في اليمن وسوريا والعراق وليبيا كما سبقهم في الصومال ، لا محرمات ، ولا حدود ، فالقتل والتصفية والتفجير هو عنوان الحياة اليومية في هذه البلاد ، المنكوبة بالتطرف والاصولية والارهاب ورفض الاخر وقتله .
ولذلك من يقول أنه يستهدف الكفار في أوروبا وأميركا فهو مخطيء ولا يرى إلا بعين واحدة ، فالمستهدف قبل هؤلاء هم من المسلمين ومن العرب ، إنها ظاهرة سياسية مقيتة ، ستأخذ مجالاً للإنتشار ثم تذوي ، وهي نتاج المرحلة الانتقالية ما بين التسلط والديكتاتورية العائلية أو الفردية أو القومية أو المذهبية أو غيرهم من أدوات الهيمنة واللون الواحد على مقدرات الشعب والامة ، بأدوات ووسائل غير ديمقراطية ، لا تستند لنتائج صناديق الاقتراع وإفرازاتها ، وبين مرحلة ستنتصر فيها قيم التعددية والديمقراطية وصناديق الاقتراع ، بعد إستنفاذ كل الاضاليل والاكاذيب من قبل من يتحكمون بالسلطة في العالم العربي ، فقد تسلطوا على الناس بإسم تحرير فلسطين وفشلوا ، وتسلطوا علينا بإسم الوحدة العربية وتعروا وخابت رسالتهم ، وها هم يتسلطوا علينا باسم الإسلام والدين ، والإسلام بريء منهم ، والدين لديهم وظيفة للإنقضاض على السلطة والوصول إليها مثل تحرير فلسطين والقومية والاشتراكية ، لا تحررت فلسطين على يدهم ، ولا القومية سادت ، ولا الاشتراكية إنتصرت بل المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي وحيداً يلعب بقوة ، والحروب البينية العربية منتشرة تأكل أخضر المواطن وتدمر حياته ، والتسلط والفردية واللون الواحد مازال سائداً ويتعزز مع التنظيمات الإسلامية العابرة للحدود .
في بلادنا العربية تتم معاقبة الشيعة بسبب إيران ، ومعاقبة السنة بسبب الإخوان المسلمين ، ومعاقبة الاكراد رغم مواطنتهم معنا بسبب تطلعاتهم الاستقلالية ، وكذلك الامازيغ والافارقة ، لأن ثقافة اللون الواحد هي السائدة ، نتاج سياسة فرق تسد الاستعمارية ، ومع ذلك ثمة بصيص من أمل لعله يكبر ويتسع ويضيء الطريق أمامنا نحو قيم الشراكة والتعددية والديمقراطية والاحتكام لصناديق الاقتراع على أساس المواطنة والعدالة وتكافؤ الفرص بين الجميع ولصالح الجميع بعيداً عن الاحادية والتعصب ونكران الاخر ومحاولة إجتثاثه .
في أوروبا مازال ثمة عنصرية وتعصب ، غذتها هذه العمليات ، ولكنها ثقافة معزولة لا ترقى لمستوى الوصول إلى مؤسسات صنع القرار ، وأدواته التنفيذية ، وهذا ما يدفعنا لتقدير موقف المانيا ومن قبلها فرنسا ومعهم بلجيكا وإسبانيا وكل الذين دفعوا ثمن الارهاب والتفجير ، ولازالوا ، فالمرض مثل الارهاب عابر للحدود وللقوميات وللديانات ، وطالما بقي أُناس يُقدرون الحياة ، ويتمسكون بها ، وبكرامة الانسان ، ستتم هزيمة هؤلاء بصرف النظر عن هويتهم أو قوميتهم أو ديانتهم