مدافن ومخاوف

دعيت عام 1990 لألمانيا لمشاهدة إعادة توحيد الألمانيتين، وتحديدا شقي برلين. وهنالك رأيت أرضا فارغة منبسطة قال لنا مرافقنا إن على هذه الأرض قام البناء الذي انتحر فيه هتلر وإيفا براون قبل أن يجري تفجيره كي لا تقع جثتاهما في يد أعدائهما. وعندما سألته عن بقايا البناء، قال لي إنه جرت تسويته بالأرض خوفا من أن يصبح مزارا يحشد ويؤجج مشاعر أتباع قدامى وجدد لهتلر.

 

وهو ما حدث فعلا نتيجة تصرف الحلفاء مع الألمان بعد الحرب العالمية الثانية بتحريك وتحكم مقرف من الصهيونية العالمية التي كانت قد اخترقت كامل بنية المعسكر الغربي سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا، منذ سنوات سبقت إنشاء مقر لها، أشبه بقاعدة عسكرية متقدمة على أرض قوم آخرين.. قاعدة لم يكن ممكنا أن تتحول لدولة، فبالغت في تأكيد دورها كقاعدة عسكرية متقدمة تعتاش على استمرار اختراق محيطها بكل الوسائل المعادية ، مدعمة كينونتها غير المسبوقة بأيديولوجية غيبية أقل قابلية للحياة ,ولهذا يلزمها أن تلغي الآخرين لتبقى.. أو تعتاش عليهم، بدءاً من أصحاب الأرض التي تحتلها، وانتهاء بمن دجّنتهم بوسائل جنهمية ليصبحوا حلفاءه في أكبر جريمة عرفها التاريخ الحديث تحاول التغطي بجرائم النازية.. وضمن هذا، كان يجري ابتزاز ألمانيا كونه لا يتيسر إلغاؤها. وما أوقف النازية الجديدة هو إعادة دمج ألمانيا وعلى قدم المساواة مع أعدائها السابقين في أوروبا، عبر مشروع الاتحاد الأوروبي.

 

 

 

ما أعاد الصورة الألمانية لذاكرتي، هو كيفية دفن أسامة بن لادن في البحر كي لا يكون له قبر يتحول "لمقام "يكاثر الأتباع . فالقاعدة ليست أيديولوجيا، ولا هي تنظيم. هي رمز للتصدي للغرب المعادي لشعوب منطقتنا.. رمز تشكل بطريقة عجيبة من حلفاء أميركا بل ومن أدواتها ذاتهم، ومنهم أسامة بن لادن، سواء بوعي منه أو دون وعي، وبتطور لفكره الجهادي أو لضرورات التحالف لأجل البقاء مع قوى مقاتلة تحت عناوين " جهادية " في حروب غير تلك التي تجند لها في البداية، والتي نهايتها جعلته فائضا غيرمرغوب فيه لا من قبل الأميركان ولا في بلده الأصل حيث رخاء العيش لا يحتمل، بل يتناقض مع كل مكونات حروب المبادئ ولو بما دون الجهاد بمعناه العسكري.

 

 

 

وفي منفاه كطريد,توسعت دائرة حرب بن لادن بفعل كل من دخلها وأحضر معه حربه، والدخول كان مجانياً للجميع ما عدا بن لادن.. هو وحده دفع أثمانا عدة لا نعرفها لأن قصته ستظل أقرب لقصة الجندي المجهول الذي قد يكون ارتكب جرائم حرب بقدر ما قام ببطولات.. ولم يحز بن لادن سوى رمزيته لدى كارهي أميركا ,وكارهين للحياة في العصر الأميركي لم يشاؤوا الانتحار وحيدين، فقرروا أخذ آخرين معهم بمن فيهم الأبرياء.. فلا وجود لأبرياء في نظر هؤلاء ما دامت الجريمة دولية. والحاشية التي تصحب الانتحاريين للدار الآخرة ستفرض ذكرهم بعد أن عاشوا نكرات في هذه الدار. وهكذا كان أتباع بن لادن يتوالدون حيث تنقل الريح هذا الطلع السائب لنبت غريب في قفار الأرض والنفس الإنسانية المشوهة بالظلم، وبعد أن ينجزوا مذبحتهم تؤهلهم رسالة تركزها لعضوية " القاعدة "بأثر رجعي.. وبمرور الزمن أصبح كل مظلوم أو متمرد أو محب للظهور " خلية نائمة للقاعدة".

 

 

 

دفن بن لادن في البحر لن يوقف عمل القاعدة.. تماما كما أن تسوية الركام الذي دفن تحته هتلر، ليس هو ما أوقف عودة النازية. وأمل أميركا في أن لا تنشأ"قاعدة "جديدة أشد تطرفا من سابقتها لا يحققه الاحتفال بمقتل رجل أعزل، حياته تبدو مأساة من أية زاوية محايدة ينظر لها .. قاتل ومقتول، لم يغنه عن الموت المحيط به لا تعدد وتبدل نسائه ولا تعدد وتبدل اتباعه وحروبه. أمل أميركا في التخلص من عنقاء بن لادن، هو في أن تتخلص من أردان سياساتها العابثة بمنطقة وبشعوب لا تريد أكثر من أن تقف على قدم المساواة مع بقية البشر..لا أن تصبح صيدا لقناصي " قاعدة " أخرى عسكرية متقدمة، وقمع سلاطين يفترض أن يكون العالم قد طوى منذ أمد صفحة فسق قصورهم وظلمة أقبية سجونهم.. فالظلم يستدعي الجن والشياطين، ويسستنبتهم من خلايا عنف نائمة في كل الناس، بعضهم في عقر دار أميركا.