إنقلاب غير دموي وغير أبيض

السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق ، هل الانقلاب العسكري الذي حصل في تركيا يوم 15 تموز 2016 ، له علاقة بالاتفاق التركي الإسرائيلي ؟؟ هل هو أحد دوافع الانقلاب ؟؟ أم أن الانقلابيين الذين خططوا وبرمجوا منذ وقت وظفوا الاتفاق ليكون ذريعة لهم وحجة للقيام بإنقلابهم ؟؟ الشيء المؤكد أن لا أحد يستطيع تقديم الاجابة الدقيقة والحقيقية على هذا السؤال غير الانقلابيين أنفسهم ، وهم في وضع الان لا يملكون فيه فرص البوح سوى للمحقيقين الذين لن ينقلوا عن الانقلابيين سوى ما يرغب نظام أردوغان تسويقه وشيطنة هؤلاء المغامرين  ، ولذلك لن يملك الانقلابيون فرص وأدوات التعبير عن دوافعهم ومواقفهم ، أسوة بكافة المهزومين على وجه الارض ، وسيبقى الصوت المسموع السائد في هذه الحالات هو فقط صوت الذين نجحوا في إخراس خصومهم الذين تم هزيمتهم ، ومنعهم من الكلام ! .
السؤال يطرح نفسه بقوة على أثر الشكر الجزيل الذي قدمه مستشار الرئيس التركي أيلنور تشباك شفيق يوم الاربعاء 21 تموز عبر التلفزيون الإسرائيلي بقوله " نشعر أن إسرائيل ساعدتنا دائماً في جمع المعلومات الاستخبارية ونحن بحاجة إلى هذا " ، وقد جاء تقديم الشكر التركي على شاشة التلفزيون بعد أن قدم أيضاً مسؤول تركي لمدير عام خارجية المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي ليعكس تطور العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بعد التوصل للأتفاق التركي الإسرائيلي ، وعودة العلاقات التاريخية والتعاون الامني والعسكري بين البلدين التي توثقت خلال عشرات السنين المنصرفة  .
إنقلاب المهزومين فشل ، وأحد أبرز أسباب فشله أن الشعب التركي بمكوناته وقومياته وأحزابه وشخصياته رفض الانقلاب بما فيهم وفي طليعتهم رموز المعارضة وخصوم أردوغان ، الذين وازنوا بين مساويء الرئيس ومساويء نتائج الانقلاب وسيطرة العسكر مرة أخرى على مقدرات تركيا بعد نجاح أربع إنقلابات سابقة ، فآثروا التمسك بشرعية الرئيس وحكومته وقبول إدراته على مضض ورفضوا الانقلاب مبدئياً ، ولكن أردوغان لم يتردد في الانقضاض على مقومات التعددية ، ووظف الانقلاب العسكري كي يعمل إنقلاباً غير دموي ، ولكنه تصفيات جدية غير بريئة وإن كانت بدون دم ، وإلغاء كل مظاهر التعددية ، مثله في ذلك مثل نجاح الرئيس محمد مرسي الاخواني الذي سعى عبر تعليمات المرشد للعمل على " أخونة " مؤسسات الدولة المصرية فإصطدم بالجيش وبالقضاء وبالإعلام وبالناس فإنتفضوا على النظام الاخواني كما سبق وفعلوا مع الرئيس حسني مبارك ، وفي الحالتين ، إنتفاضة يناير وإنتفاضة يونيو الجماهيرتين ، قام الجيش بدوره ، الاولى ضد مبارك على يد محمد حسين الطنطاوي والثانية ضد محمد مرسي على يد عبد الفتاح السيسي .
المضمون واحد والهدف هو الاستيلاء على السلطة ، ولكن أردوغان في بلده إعتمد على المؤسسة الامنية بدلاً من المؤسسة العسكرية المجمدة والمهزومة والتي وقعت بالخذلان بسبب الانقلاب أولاً وبسبب تصفيات أردوغان لكبار ضباطها ثانياً ، فغدت بلا وظيفة وبلا دور ، سوى الانكفاء والانصياع للتعليمات ، والرضوخ للشارع الذي إستطاع  أردوغان تضليله ، والاستفادة منه ، وتوظيفه لصالحه ، لصالح إنقلابه .
أردوغان بات الحاكم بأمره وعاد إلى شرقيته وأثبت للأوروبيين صحة رفضهم المسبق لقبول تركيا في عضوية الاتحاد الاوروبي ، ويبدو أن شروطهم القاسية كانت محقة حينما وصفوا إجراءات تركيا للتكيف مع القيم الاوروبية غير كافية ، وها هي الاحداث سواء من محاولة إنقلاب الجيش على الشرعية ، أو إنقلاب أردوغان على كل قيم الديمقراطية والتعددية تُثبت أن تركيا حقاً غير مؤهلة كي تنضم لأوروبا وأنها غير مؤهلة بعد كي تلتزم بقيم الديمقراطية ، فالديمقراطية لدى أهل الشرق وتنظيماتها الاسلامية هي لمرة واحدة بهدف الوصول إلى السلطة ومن ثم الانقضاض عليها وإلغاء كل الفرص أمام المعارضة ، وإلغاء الاخر ، وتصفيته ، وإلغاء وجوده والبطش به ، وهذا ما يفعله أردوغان الان بحق خصومه وإنهاء وجودهم في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والعودة إلى الخلف ، وإلى الخلف البعيد والعميق ، كما فعل أجداده سلاطين العثمانيين ، وكما فعل من قبلهم ولاة الامويين والعباسيين ببعضهم البعض .
الإسرائيليون لا مصلحة لهم بمساعدة تركيا للوصول إلى عضوية الاتحاد الاوروبي ، ولذلك ساعدوا أردوغان على كشف الانقلاب ومساعدته على إحباط خصومه ، وسيستفيدون منه نحو تعزيز مشاركتهم في برنامج الناتو العسكرية والامنية بإعتباره أحد أعضاء الناتو ، وأحد الذين وضعوا فيتو على مشاركات إسرائيلية في برنامج حلف الاطلسي على أثر الاعتداء على سفينة مرمرة ، وها هو الاتفاق التركي الإسرائيلي يفتح لهم بوابة واسعة تُؤهلهم لدخول حلف الناتو بقوة  ، ولذلك لم يكن صدفة وصف الصحفي الإسرائيلي بن درور يميني في يديعوت أحرنوت يوم 30/6/2016 للإتفاق التركي الإسرائيلي على أنه " أحد أهم الاتفاقات التي وقعتها إسرائيل في السنوات الاخيرة " .