صبحي حديدي يخاطب ليث الشبيلات: كيف تناضلون من أجل الحرية في الأردن وتستكثرونها على أبناء سوريا ؟
اخبار البلد- كتب صبحي حديدي -نظام ‘الممانعة’ و’المقاومة’، في توصيفه لذاته، بذاته؛ أو نظام الفساد والإستبداد، في التوصيف الفعلي الذي لم تعد تنفيه عنه سوى كتائب الأبواق ومفارز المطبّلين المزمّرين؛ إحتاج إلى عشرة أيام، وإلى تدخّل مباشر أو غير مباشر، من ‘ممانعين’ على غرار سليم الحـص وسـامي شـرف وعبد الحكيم عبد الناصر وليث شبيلات وخير الدين حسيب وكمال شاتيلا… لكي يطلق سراح حسن عبد العظيم، الأمين العـام لحـزب ‘الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي’.
عشرة أيام من المناشدات الحارّة لشخص بشار الأسد، واستصراخ روح ‘الممانعة’ لدى زيد أو عمرو من أركان النظام، وبينهم (كما يفترض المرء، منطقياً) أمثال اللواء علي مملوك، رئيس إدارة المخابرات العامة، ممّن كانوا وراء قرار اعتقال عبد العظيم، بالرغم من أنّ ‘التحقيقات’ لم تثبت على الرجل أية تهمة، كما قال بلسانه في حديث مباشر مع فضائية ‘الجزيرة’. وفي الأصل، استناداً إلى روايته لوقائع التحقيق معه، كان الإتهام يدور حول مشاركة حزبه في الاعتصامات والتظاهرات، والتصعيد، والتحريض… الأمر الذي نفاه عبد العظيم، مؤكداً أنّ لجوء السلطة إلى العنف هو الذي صعّد الموقف!
قبل هذه الواقعة كان ليث شبيلات، من موقع ‘الممانعة’ دون سواه، كما يتوجب أن نفهم، قد وجّه رسالة إلى الأسد، تنتهي جملة أفكارها إلى واحدة، مزدوجة ربما: نحن معكم يا سيادة الرئيس، قلباً وقالباً، لأنكم نظام ممانعة؛ ولكننا في حرج من أمرنا جرّاء إراقة الدماء، فليتكم تبادرون إلى ما يخفف الحرج عنّا، نحن أصدقاءكم وحلفاءكم، يا سيادة الرئيس… ولكي لا تبدو السطور السالفة شرحاً تبسيطياً للنصّ الأصلي، أو إساءة تمثيل له، هنا فقرة الإستهلال من رسالة شبيلات: ‘تعلمون جيداً كم نحن مؤيدون لمواقف سورية القومية وخندق الممانعة الذي تقوده، فمن هذا المنطلق، أي من خندق المحبين المتحالفين، أبعث هذه الرسالة، دفاعاً عن النفس قبل الدفاع عن أي موقف أو شخص يرد ذكره. دفاعا عن النفس، إذ أنّ خصومنا من المستسلمين للعدوان على الأمّة، المقبلين على صهينة أنفسهم ومجتمعاتهم يغمزون من قناتنا فيما يخص دعمنا وتأييدنا لمواقفكم. والثغرة الكبيرة التي ينفذون منها دون أن نستطيع الدفاع عن أنفسنا منها هي موضوعة الحرية السياسية. ففي الوقت الذي يعرف الجميع أننا مناضلون من أجل الحرية وحقوق الإنسان، ونحظى في ذلك بالإضافة إلى التأييد الجماهيري، على تأييدكم وإعجابكم، لا نستطيع أن نفسر للناس غياب جهودنا الحميدة لتحسين وضع الحريات في سورية. فيصورون نبل موقفنا في دعمكم على أنه ازدواجية في المعايير’.
أمثال شبيلات، وهم كثر بالطبع، يريدون من ‘الأمّة’ أن تصدّق ‘نبل’ مواقفهم، فلا يرون أية إزدواجية في معيار تصفيقهم لنظام ‘ممانع’، لكنه يرسل دباباته إلى المدن والبلدات السورية، على مبعدة كيلومترات قليلة من الجولان المحتلّ؛ أو يستخدم، في قصف الشيوخ والنساء والأطفال السوريين العزّل، المدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ ذاتها التي ظلّت صامتة في الجولان منذ توقيع ‘اتفاقية سعسع’، مع العدو الإسرائيلي، سنة 1974. ويتمنون على ‘الأمّة’ أن لا تتفهم غياب جهودهم لـ’تحسين’ وضع الحرّيات في سورية، فحسب؛ بل اعتبارها، أيضاً، بمثابة جهود ‘حميدة’… حتى قبل، أو دون، أن تُبذل!
وكيف لا تكون هذه الحال أكثر من محض ازدواجية في المعايير، بحقّ الله الذي تعبد، يا سيدي؟ وكيف لا يكون دعمكم وتأييدكم للآمرين بإراقة دماء السوريات والسوريين، بمثابة سكوت عن الحقّ، لكي لا يذهب المرء أبعد فيرى في الصمت شهادة زور، أو تواطؤاً؟ وهل، حقاً، ينبغي أن يكون ‘مستسلماً للعدوان’، أو ‘مقبلاً على صهينة نفسه’، كلّ مَنْ يرفع في وجوهكم أصابع الإتهام، بالسكوت أو التواطؤ؟ وأي حرّيات وحقوق إنسان هذه التي تناضلون من أجلها، في الأردن أو مصر أو لبنان، ثمّ تستكثرونها على أبناء سورية، أو تطالبون بها على استحياء، بالتأتأة تارة، وبالغمغمة طوراً، وبعد تقديم آيات الولاء للنظام ‘الممانع’ في كلّ حال ومآل؟
صحيح أنّ شبيلات (إسوة بالأغلبية الساحقة من ‘الممانعين’ العرب الذين تناولوا موضوع الإنتفاضة السورية)، لم يتردد في التعاطف مع شهداء سورية، واعتبار مطالب الشعب مشروعة، ومن الخطأ تخوين المطالبين بها، ولا بدّ من الإنفتاح على الشباب والإصغاء إلى مطالبهم؛ وهذا تحصيل حاصل، في الواقع. ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ شبيلات علّق الآمال، كلّها، على شخص بشار الأسد، معتبراً أنه ‘ما زال موضع ثقة ومحبة شعبية’، وأنّ هذه هي ‘أهم قوّة قادرة على إجراء التغيير السلمي السلس’، الذي يرى شبيلات أنه ‘جزء من قناعات صاحبها وليست مخالفة لتوجهاته’، فيخاطبه هكذا: ‘استثمر شخصيتك المحبوبة، والكاريزما الشجاعة التي حباك المولى بها’. أهل سورية أدرى، مع ذلك، بحقائق هذا الوريث، الذي تمّ تعديل الدستور في دقائق لكي تتناسب موادّه مع توريث السلطة من الأب إلى الابن، لكنه استعصى طيلة 11 سنة، وما يزال يستعصي، على منح الشعب السوري حقوقه الجوهرية الأبسط.
وهل يعتقد شبيلات حقاً ـ أم أنه يمعن في ‘الممانعة’ إلى درجة ذرّ أيّ رماد في كلّ العيون، بما في ذلك عينيه هو شخصياً ـ أنّ الذي تسبّب في مقتل أكثر من 800 شهيد حتى الساعة، في قرابة 84 مدينة وبلدة وقرية في سورية، هو آمر آخر غير بشار الأسد؟ وإذا صحّ أنه كان غافلاً عن هذه الجرائم، وعن قرارات حصار المدن واستخدام الرصاص الحيّ وقذائف الدبابات والمدفعية ـ وهذا، بالطبع، لا يعقل ولا يستقيم ـ فكيف يمكن أن يظلّ ‘موضع ثقة ومحبة شعبية’؟ وإذا كان هو الآمر الأوّل، أياً كانت فتاوى رجالات النظام حول مقدار الشدّة الواجب اعتمادها ضدّ الحراك الشعبي، وأياً كانت تنويعات سفك الدماء أو التنكيل بالمواطنين؛ كيف يتّقي شبيلات ربّه، ويعتبر مطالب الشعب مشروعة، ويدعو الله أن يسدّد خطى بشار الأسد، ويواصل الرهان على شخصيته… في آن معاً؟
ولكن، من جانب ثانٍ يخصّ مفهوم الممانعة الحقة، ما قول قادة الأمّة ‘الممانعين’ في التصريحات التي نسبتها صحيفة ‘نيويورك تايمز’ الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وتمساح الإستثمار والأعمال الأشرس في سورية، بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار إسرائيل، وقوله بالحرف: ‘إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار في إسرائيل’؟ وكيف لهم أن يفسّروا لـ’الأمّة’، دون سواها، أنّ النظام السوري ‘الممانع’ هو ذاته النظام الضامن لاستقرار الكيان الإسرائيلي الذي يمانع ضدّه، وضدّ الولايات المتحدة بوصفها راعيته وحليفته الكبرى؟
ومن جانب آخر، كيف يحثّ أمثال شبيلات على اتخاذ مواقف تأييد ‘نبيلة’ تجاه هذا النظام، إذا كانت رسائل أولي الأمر في النظام (وفي طليعتهم صيرفي الفساد والإستبداد الأوّل) يستجدي إسرائيل ويغازلها ويستجير بها… سواء بسواء؟
وما قول ‘الممانعين’ في نظام ‘ممانع’، لكنه يمنح حقّ النطق باسم السلطة إلى رجل لا يشغل أية وظيفة رسمية في الدولة، ومقامه في التصريح والتهديد والوعيد لا ينهض إلا على كونه ‘ابن خال الرئيس، والرئيس ابن عمّته’، كما صرّح حرفياً في حواره مع ‘نيويورك تايمز’؟ هل هذه دولة تمانع، وبئس ما تمانع فيه وضدّه بالتالي؛ أم هي مافيا عائلية، وهي بالتالي تقاتل بمليارات رجل الأعمال الطفيلي، مثل مسدّس ‘الشبّيح’؟ وحين يقول مخلوف: ‘سنقاتل حتى النهاية’، و’لدينا الكثير من المقاتلين’، و’يجب أن يعرفوا أننا حين نعاني، فإننا لن نعاني وحدنا’، و’يعرف كلّ واحد منّا أننا لا نستطيع الإستمرار دون البقاء موحّدين’، و’رغم أنّ الأسد له الكلمة الأخيرة، إلا أنّ السياسات تُرسم بقرار مشترك’… فهل يتحدّث، هنا، عن دولة، أو حتى عن نظام دكتاتوري، أم عن ميليشيا، وعصابة، ومزرعة عائلية؟
وكان الأسد، في حوار شهير مع ‘نيويرك تايمز’ يعود إلى أواخر سنة 2003، قد سُئل عن فساد ابن خاله، صاحب عقد الهاتف الخليوي الشهير آنذاك، فأجاب: ‘إنه سوري مثل أيّ سوري، وسواء أكان ابن خالي، أم أخي، أم صديقي، أم أيّ شخص آخر، هنالك قانون سوري’. والحال أنّ ذلك ‘القانون’ هو ذاته الذي وضع خلف القضبان رجلاً مثل رياض سيف، العضو الأسبق في ما يُسمّى ‘مجلس الشعب’، لأنه كشف عجائب ذلك العقد الفاضح. وأمّا العقد، أو ‘صفقة العصر’ كما سُمّي، فإنّ بنوده تضيّع على الدولة السورية، خلال الـ 15 سنة الإبتدائية في مدّة العقد، ما قيمته 346 مليار ليرة سورية (حوالي 7 مليارات دولار أمريكي، أنذاك)؛ والشركتان المتعاقدتان، اللتان يمتلك الشخص ذاته غالبية أسهمها، تحققان أرباحاً احتكارية وغير عادلة تبلغ 200 إلى 300 مليار ليرة سورية؛ وهي تعادل (رجاء الإنتباه جيداً!) رواتب وأجور وتعويضات جميع العاملين في خمس وزارات، وزارات العدل والتعليم العالي والتربية والصحة والشؤون الإجتماعية والعمل، يعيلون ما يقارب المليون مواطن، على مدى 15 عاماً!
وأعمال مخلوف تنبسط على عشرات المؤسسات الكبرى والصغرى، المصرفية والعقارية والسياحية والصناعية والتجارية، وتتراوح أسهمه فيها بين 80 إلى خمسة في المئة، بينها ‘سيرياتيل’، و’شام القابضة’، ومصارف ‘سورية الدولي الإسلامي’ و’بيبلوس’ و’الشركة الإسلامية للخدمات المالية’ و’شام كابيتال’ و’بركة’؛ وشركات ‘راماك للأسواق الحرّة’، وطيران ، و’غولف ساندز’، و’نور للألبسة’، و’الكورنيش للسياحة’، و’البتراء للسياحة’، و’فاتكس للأدوية’، ومعمل حديد ‘إل تيل’، و’أجنحة الشام للطيران’، وراديو وتلفزيون ‘نينار’… وباختصار شديد، قالت إذاعة الـ BBC إنّ مخلوف يسيطر على 60 بالمئة من الاقتصاد السوري، ولا يمكن لأية شركة أجنبية أن تقوم بأي استثمار في البلد دون موافقة، أو إقامة نوع من الشراكة مع، مخلوف؛ فكيف بالاستثمارات السورية، في القطاع العام أو الخاص، وفي مختلف حقول النشاط الاقتصادي، من صناعة قضبان الحديد إلى احتكار البرغل… طعام فقراء سورية الأوّل!
والحال أنه ليس من عادة مخلوف أن يدلي بتصريحات للصحافة، بل تكاد هذه الرياضة أن تكون نادرة تماماً بالنسبة إلى تمساح أشغال مثله، وهو أغلب الظنّ كسر الصمت لكي يبعث بسلسلة رسائل داخلية (تسير على منوال السلطة، في التهويل والترهيب)، وخارجية (إلى إسرائيل أوّلاً، ورعاتها ثانياً)؛ ولكنها، كمثل جميع تكتيكات النظام حتى الساعة، تقلب السحر على الساحر، وتجعل فتى النظام المدلل أضحوكة لمظهر النظام مرّة، وكاشفة لباطنه المخادع مرّة أخرى، وتعبيراً عن التخبط والذعر واليأس واقتراب الساعة في كلّ المرّات. ومع الاعتذار من إبراهيم طوقان، الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل؛ وانتفاء المقارنة كليّاً، فإنّ مخلوف ‘نيويورك تايمز’ أشبه بـ’صامت لو تكلما/ لفظ النار والدما. المحزن، في المقابل، أن يقتفي أثره أولئك الذين لا يكسرون الصمت إلا لكي يعلّقوا المزيد من الآمال على وشاح السفاح، مكتفين بالترحّم على أرواح الضحايا، والله يحبّ ‘الممانعين’!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس