انقلاب تركيا: أمّا.. بعد!


 

لن يطول الوقت لاكتشاف همروجة الانقلاب «الفاشل» الذي سارع نظام اردوغان لتحميل مسؤوليته الى الداعية فتح الله غولن, بل ثمة من بدأ يتحدث داخل تركيا نفسها عن إعداد مُسْبَق لسيناريو انقلاب, بدا لكثيرين ان من قاموا به مجرد «أغرار» في مدرسة عسكرية متواضعة, والاّ كيف يمكن لكل هذه الرتب العسكرية «الرفيعة» ان تنهار بمثل هذه السهولة ,بمجرد نزول بضع عشرات على جسر البسفور وفي ميدان تقسيم وهم يتوفرون على دعم من سلاح الجو والشرطة العسكرية والوية مدرعة.
واذا ظهر اردوغان في اسطنبول بعد غياب طال ساعات لم يُعرف مكانه خلالها, ليرفع أمام انصاره شعار «رابعة» (وما أدراك ما رابعة في رموز الاخوان المسلمين منذ ثلاث سنوات؟) فإن الفرح الذي ابداه الاخوان المسلمون في اقطار عربية عديدة (دع عنك المعارضة السورية التي كادت تفقد آخر رعاتها) يعكس مدى وعمق العلاقة التي تربط النظام العثماني الجديد بحركات الاسلام السياسي – وكيف ادار الاخوان المسلمون ظهورهم لمفهوم العروبة والهوية العربية, لصالح هوية اسلاموية شعبوية تنهل من معين قومي تركي متطرف, لا يرى في العروبة جامعاً, رغم ان العروبة سبقت الاسلام,أراد المولى تعالى اسمه ان يعز العروبة بالاسلام، فجاء المتأسلمون ليحاولوا الطمس على العروبة منذ ان ظهروا على الساحة قبل نحو من تسعين عاماً، وكرسوا هذا التنكُّر للعروبة في معاداتهم لثورة 23 يوليو التي نحتفل هذه الايام بذكراها الرابعة والستين, ثم كيف ابدوا شماتة (وفرحاً في الآن نفسه) بنتائج عدوان 67 حيث صلّى ابرز دعاتهم الشيخ الشعراوي «ركعتين» شكراً لله (..) على هزيمة عبدالناصر.ويقوم «القرضاوي» هذه الايام بالدور... ذاته.
يتكرر التنكر والجحود بعد ان «نجا» اردوغان من انقلاب, ما تزال اسئلة عديدة وكبيرة تُطرح في شأنه «جديِّته» لدى عواصم ودوائر ومراكز عديدة داخل تركيا وخارجها, وبخاصة بعد ان بدأ أردوغان «انقلابه» مباشرة بعد ما قيل عن «إحباط» الانقلاب, وراح المريدون والمطبلون يتحدثون عن «الكاريزما» الاردوغانية وعن «الديمقراطية» التي انتصرت, فيما يتبدى بوضوح لكل ذي بصيرة مدى وحجم الهجمة الانقلابية المضادة التي شرع فيها اردوغان بتطهير المؤسستين العسكرية وخصوصاً القضائية, دون محاكمات او انتظار حتى يتم تصفية باقي جيوب الانقلاب الذي قيل في شأنه إنْ لم ينتِه وان على «الجماهير» ان تبقى في الشوارع حتى مساء السبت، كي تحول دون «تكرار» هذه المحاولة من قبل متمردين «آخرين»، ما أضفى على الرواية الرسمية التركية المزيد من الغموض والشكوك وخصوصاً في استخدامها للكيد السياسي وارتكاب «مذبحة» حقيقية في المؤسسة القضائية وبخاصة المحكمة الدستورية والمحكمة الادارية العليا وعزل آلاف القضاة، وكأن هؤلاء يتوفرون على كتائب والوية مسلحة او انهم نزلوا الى الشوارع واحتلوا الثكنات وحملوا السلاح مع «الانقلابيين» حيث بدا «الاخيرين» رعاع استسلموا بمجرد اعتلاء شباب صغار السن الدبابات, على نحو يُذكِّر بما فعله بوريس يلتسين في وجه «الانقلاب» الذي زُعم ان الجيش الاحمر السوفياتي قام به بقيادة عضو المكتب السياسي «ياناييف» وتبين لاحقاً ان كل شيء تم فبركته وتضخيمه, كي تكتمل مؤامرة تفكيك الاتحاد السوفياتي واسقاط منظومة الدول الاشتراكية والحاق روسيا بالمعسكر الغربي, تابعة مهيضة الجناح وجائعة, تنحدر رويداً رويداً الى مرتبة دولة في العالم الثالث وصولاً الى ان تصبح دولة فاشلة, تسيطر عليها شركات النفط وتلك عابرة القارات وخصوصاً المافيات الدولية.
من تابع وقائع جلسة البرلمان التركي الطارئة التي تحدث فيها رؤساء الاحزاب الاربعة المُمثّلة في البرلمان, وخصوصاً كلمة رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديميرطاش الذي القاها نيابة عنه رئيس الكتلة البرلمانية لهذا الحزب، كذلك في ما ذهب اليه رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال يلتشدار اوغلو، يلحظ انهما تحدثا بلغة مختلفة، مغايرة عن تلك «الرواية» التي حاول نظام اردوغان الترويج لها, لانهما وإن رفضا وأدانا في جزم وقوة «الانقلاب» إلاّ انهما (وكل بلغته وعباراته الخاصة) رفضا الانقلاب سواء كان «مدنياً» ام عسكرياً, وراحا يتحدثان في وضوح وثقة عن ان الديمقراطية كل لا يتجزأ ولا يمكن لها ان تتجذر إذا ما تم قمع الحريات ومطاردة الصحافة والتنكيل بالقضاء واجهاض الروح المعنوية للجيش,بل دعا حزب الشعوب الديمقراطي الى تشكيل «لجنة تحقيق»للوقوف على ملابسات»الانقلاب وتحديد المسؤوليات, إلاّ ان طلبه قوبل بالتجاهل ، فيما مثل هذه اللجان تقوم في الدول الديمقراطية العريقة بل تزامن الانقلاب «التركي» مع نشر تقرير لجنة تشيلكوت البريطانية في حرب العراق كذلك الملاحق السرية في لجنة التحقيق في احداث 11 ايلول 2001 الاميركية واسرائيل حليفة اردوغان الجديدة القديمة, مشهورة بلجان تحقيقاتها التي يجب ان يعرفها الجمهور وليس ان يسير «الانتقام»ونصب «أعواد المشانق» وفق مزاج الحاكم واجندة حزبه السياسية.
ما بعد الخامس عشر من تموز تُركِياً ليس ما قبله, إلاّ ان الذين يعتقدون ان انقلاب اردوغان الذي بدأ للتو, سيستأصل اسباب التوتر والاحتقان السياسي والاجتماعي ويطمس على سياسة كبت الحريات وقمع الصحافة وإخصاء القضاء واهانة الجيش, سيكون واهماً, فتركيا منقسمة اليوم اكثر من اي يوم مضى وما «جدل الانقلاب» الذي سيأخذ وقتاً طويلاً, سوى احدى تجليات هذا الانقسام...الافقي والعامودي.
والايام ستقول.