الإرهاب الفكري

للفكر دور خطر في تطوير البشرية أو هدمها والقضاء عليها، فهو في «بكوريته» لا يحتاج إلى أدوات معقدة أو مجهود كبير، فقط تصدير بعض العبارات إلى الأفراد، وهي تلقائياً ستذوب في عقولهم.

 

 

الفكر له دلالات ومعانٍ حقيقية لصنع حياة الفرد والمجتمع بأسره، وللأسف هُمش لدينا كثيراً، ويا ليته ترك كما هو على عفويته، لكنه ارتدى عباءة متنوعة الاستخدامات، ظاهرها حسن وباطنها عدائي، ينخر العقول لبرمجة طويلة المدى، ومدمرة لكل ما تعنيه الكلمة في مفهوم الحياة والإنسانية.

 

 

كان خلف هذا الفكر أصابع تحركه كيفما تشاء لأهداف دنيوية ومصالح سلطوية، وحاول منذ بداية ظهوره في تياراته المتعددة أن يزرع ثقافة الكره للمختلف عنه، ومرة أخرى بزرع فكرة حماية الدين بأي أسلوب، حتى لو كان عنيفاً انتقامياً، ومرة أخرى منع العيش والاستمتاع بكل جمال الأرض واستغلال مواهب الإنسان في شجون الروح كالفنون والموسيقى والمسرح، بحجة أنها تخدش روحانية الفرد.

 

 

وبين كل تلك المهاترات الفكرية المنظمة لسنوات طويلة عاش جيل كامل تشرب هذه الصراعات الفكرية، بين حرية الفرد وسجنه في إطار الخوف والعداء لكل شيء حوله، بل جعله في قالب لا يتجاوزه أو يتعداه وإلا اعتبر كافراً فاسقاً.

 

 

هذا الجيل تعلم التشدد والغلظة والقسوة وتحريم كل شيء حتى المباح، بذريعة سد باب الفتن، فكان هو أكبر باب فكري يعلِّم الكره والانتقام والعدائية المفرطة في الفكر والمفاهيم، وألغى معه المحبة وثقافة الحب والتسامح وحسن الظن، كان يكفي فقط أن تقصر ثوبك وتحفظ بعض العبارات لتكون سوطاً من نار لكل من يخالف هذا الفكر وهذا الاعتقاد المبرمج.

 

 

هذا الفكر لم يهدأ ويمكث في إطاره التقليدي والمحدود، بل امتد لكل شي في دور العبادة والمدارس والجامعات والأسر، حتى لو قارنَّاه بين صور الحياة قبل وبعد خلال الـ40 عاماً الماضية ستجد الاختلاف الكبير في مفهوم الحياة البسيطة والتعامل البشري الإنساني، ليس من الناحية المادية أو الشكلية، بل في هذا الفكر، الذي تحول من فكر محب وعفوي، إلى تكفيري متسلط.

 

 

حان وقت النظر للجذور الفكرية ومعالجة الخطأ فيها، وأن يتعلم الناس الفكر السليم والمتوازن البعيد عن التشدد والغلظة ونبذ المختلف، وإحياء فكر إنساني يراعي حق الله حقيقةً، قائم على المحبة والعدل، وعندما نقول العدل، العدل في عدم إطلاق الأحكام المسبقة الملتحفة بعباءة سوء الظن والتشكيك والقمع.

 

 

إذاً، كيف يحيا هذا الفكر المتوازن من جديد؟

 

 

أولاً: لا بد من طرْق الفكر القديم، وتصحيح المفاهيم المغلوطة وتعديلها بشجاعة، والتوضيح لأفراد المجتمع كافة كيفية العيش في الحياة، واحترام الآخر ومعتقداته وميوله، طالما لم تتجاوز الحدود الشرعية والقانونية.

 

 

ثانياً: أن يبدأ هذا في الجانب الديني، بأن يكون صوته مسموعاً وعالياً في إظهار فكر سليم ومتوازن ومحب وخيّر ومسالم في الخطب والمحاضرات، وأن يعلو صوته في كل دور العبادة، إضافة إلى الجانب التعليمي، بأن يفعل دوره ومناهجه في تحريك وتنمية الفكر المتوازن والسليم في مناهجه ومعلميه ومرشديه والقائمين عليه، ولا سيما في المراحل التعليمية الأولى، لزرع الثقة في أنفسهم والاعتماد عليها، ومن ثم تعليمهم أصول التعبير عن النفس وأسلوب الحوار والمناقشة لكل شيء، وأن نبتعد عن التلقين والحفظ، ونحرك القدرات العقلية في التفكير والتحليل والتفسير بين الطلاب والمعلمين، وأن نكسر القاعدة السلبية التي تعشعش في عقول بعض القائمين على ذلك، بأن الطالب لا يفهم ولا يستوعب إلا بأسلوب السرد والتلقين.

 

 

هذا هو السلاح الذي يحميهم من التطرف الفكري، لأنه سيعتاد على التحليل والتعبير وعدم الخوف والعزلة، بل سيكون قادراً على أن يعبر ويقول كل ما يدور في خاطره.

 

 

ثالثاً: فتح أبواب عدة في استغلال قدراتهم الجسمية، وذلك في تفعيل دور الرياضة والنشاطات على مستوى عالٍ منظم لكل المراحل في المدارس والجامعات، وصنع قادة من هؤلاء الشباب هم من يتولى هذه المهمات، وفتح أبواب استغلال مواهبهم العلمية وتسليط الضوء عليهم وتوفير الإمكانات لكل من تتوافر فيهم بذور هذه المواهب، وفتح أبواب الفنون والرسم والمسرح الذي غاب كثيراً، وغاب دوره الفعلي في صقل شخصية الطلاب، وأولها القدرة على التعبير والتمثيل والمشاركة، من هنا نحرك الحس الوجداني والمشاعري والفكري أيضاً، وفي الوقت ذاته شغل أوقات فراغهم بما يفيدهم.

 

 

ما يحتاجه الأفراد صحوة فكرية بعد تلك الغيبوبة الطويلة، وأن الحياة هينة لينة لا بد أن يعيشها بسلام ومحبة، لا إفراط ولا تفريط، وأن يتعرفوا على حقيقة المعاني الإنسانية التي غيبت كثيراً تحت مسميات شكلية لا جوهرية.