عمان تتحول إلى "فاليه"

"ما من انفلات إلا ويعكس رغبة السلطة أو عجزها".
إضافة إلى ما كتبه في "الغد" الزميلان فريهان الحسن (27/ 2/ 2012)، وعبدالله الربيحات (22/ 4/ 2015)، لم يعد ممكنا أن تجد مكانا في عمان تركن فيه سيارتك إلا من خلال "الفاليه". مواقف المستشفيات والمجمعات التجارية، والأرصفة والساحات... كل مكان يصلح للاصطفاف في عمان يتحول إلى موقف سيارات "فاليه"، وغصبا عن المواطن.
تذهب إلى المستشفى أو المجمع التجاري أو الحكومي، فتجد المواقف جميعها محظورة عليك، ويتفرغ موظفون لمنعك من الاصطفاف. أما الساحات المفترض أنها ملحقة بالمرافق والمؤسسات، أو أنها عامة أو متاحة، فتسيطر عليها جماعات تمنعك من الاصطفاف فيها إلا بمقابل، وغالبا يجب أن تسلمهم سيارتك.
لا تظنن أن المشي على قدميك أو استخدام تاكسي، هو بديل مريح. فالمشي في شوارع عمان يكاد يكون مستحيلا، إلا بمغامرة قد تدفع حياتك أو سلامتك ثمنا لها، عدا أن الأرصفة مشغولة بالسيارات والأشجار والبسطات والامتدادات العنجهية لأصحاب العمائر والبيوت والمجمعات والمحال التجارية. أما التاكسي، فإن وجدته، فإنك تتعرض لتجارب سيئة تجعلك تحلف أن تكون آخر مرة في حياتك تستخدم التاكسي.
رجال الشرطة ونساؤها أيضا يخالفون كل سيارة يجدونها أو يلمحونها، سواء كان التوقف مسموحا أو ممنوعا. وبرغم أنهم يرون كل سيارة أو نملة في الطريق، إلا أنهم لا يرون "الفاليه" والمجمعات والمؤسسات التجارية (هل ما يجري هو من قبيل تشجيع الاستثمار؟). وقال لي وزير سابق إنه متأكد أن أحد المستشفيات يجني من مواقف السيارات أكثر مما يجني من العلاج والدواء!
لم يعد في عمان مكان عام؛ حديقة أو ساحة أو متنزه، يصلح أن تذهب إليه. فإذا وجدت مكانا، لن تجد موقفا آمنا لسيارتك؛ وإذا وجدت موقفا، فلا تجد السلع والخدمات بالمستوى والجودة التي تناسب السعر الذي تدفعه، بل وتتعرض أيضا للإهانة والتطفل والسخرية والنصب والاحتيال. هل خطر على بالك يوما أن الأسعار المثبتة على الرفوف قد تكون نصف أو ثلث أو ربع الأسعار في "كمبيوتر الكاش"؟ وهل خطر على بالك أن عمليات الاحتيال الصغيرة هذه تمارسها شركات كبرى وذات أسماء وعلامات تجارية عظيمة وعالمية؟ هل خطر على بالك من قبل أن فنادق ومطاعم من فئة خمس نجوم تقدم وجبات وخدمات أقل بكثير في مستواها وجودتها من الأكشاك والبسطات في الأرصفة وفي وقاع البلد؟ هذا شهدته بنفسي في أماكن ومناسبات كثيرة، وحدثني به أيضا أصدقاء ثقات! وكان رمضان مناسبة عظيمة لهذه الانتهاكات التي يدفع المواطنون والزوار ثمنها أضعافا مضاعفة!
لم يعد يصلح لفهم وتفسير ما يحدث في عمان اليوم سوى تطبيق واستحضار مفاهيم واتجاهات الصيد ورعي الثمار؛ فما يجري في الأسواق والطرق والمؤسسات من سلوك وسياسات واتجاهات، يعكس شعورا بالكدّ لأجل البقاء ومواجهة التهديد والمخاطر والمخاوف والاستفزازات والمفاجآت. وردود الأفعال أيضا تعكس حياة الصيد وجمع الثمار، بما فيها من اقتناص لكل فرصة، والصراع، والشعور الدائم بالتهديد والتوتر والاستفزاز؛ فأنت تخاف من صياد أو عدو لا تعرفه ولا تعرف أين هو، وتخاف أيضا ألا تجد شيئا، وإذا وجدت فلا تدري هل ستجد غدا أو لا تجد. والحكومات والمسوقون يعرفون ويستثمرون غرائز الناس ومخاوفهم، ففي هذا الخوف يسوق كل شيء من سلع وخدمات وأوهام. ويهيمن عليك خوف يجعلك تتمنى لو أنك قادر على أن تعتكف في بيتك وتغلق على نفسك الأبواب والنوافذ والستائر والأباجورات!