فيما لاذ الرئيس التركي بالصمت والاعتكاف عن التصريحات السياسية وغير السياسية منذ ان اعلن عن استدارات لافتة في سياسته الخارجية التي اتسمت بالارتجال والكيد السياسي المحمول على انفعالات وحسابات شخصية محضة، وبخاصة في الأزمة السورية المتمادية منذ خمسة اعوام ونيف، وخصوصاً في اتجاه موسكو التي اعتذر منها على خلفية حادث اسقاط المقاتلة الروسية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي وعودة الدفء الى العلاقات بين البلدين, بعد ان نزل اردوغان عن الشجرة العالية التي صعدها، وظن انه في مأمن من «الرشقات» او دفع الحساب، فضلاً عن التنازل الكبير الذي قدّمه لحكومة اليمين الفاشي في اسرائيل وتخليه عن شرط رفع الحصار عن قطاع غزة لِإعادة تطبيع العلاقات بين تل ابيب وأنقرة، هذا الشرط الذي استثمر فيه كثيراً وطويلاً من اجل ترويج مشروعه العثماني الجديد والظهور بمظهر المدافع عن القضية الفلسطينية والتمسك بحقوق شعبها (في ظل تخل عربي مُعلَن) عنهم، رغم الارتفاع الملحوظ في التجارة بينهما والتي تجاوزت ستة مليارات دولار، ناهيك عن التسهيلات التي يقدمها ميناء حيفا للصادرات التركية، الى دول في الشرق الاوسط بعد اغلاق الحدود السورية التركية البرية ,دون اهمال ما انطوى عليه قرار انقرة بعدم معارضة فتح اسرائيل مكتباً لها لدى حلف شمال الاطلسي، الذي يعني رفع مرتبة تل ابيب لدى الحلف الى دولة مفضلة (ولكن ليس عضواً) للحلف وما تتيحه لها هذه «المنزلة» من فرص للاستفادة من خبرات وتقارير وابحاث ومناورات وخطط الحلف.
ما علينا..
اردوغان اطلق في اثناء «اختطافه» الاضواء، بعد تطبيع علاقاته مع موسكو وتل ابيب, تصريحاً خطيراً تسبّب, كما كل تصريحاته, في اثارة سجالات على الساحة التركية مرشحة للتصاعد، كلما اقترب موعد تطبيق ذلك التصريح ميدانياً ومعرفة تفصيلاته, وما اذا كان المنتقدون – ومعظمهم ليس بالضرورة في خندق المعارضة التركية – سيواصلون فتح نيرانهم على الرئيس الذي يتهمونه بأنه يريد استثمار مردود هذا التصريح انتخابياً, سواء لصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم ام لشخصه الكريم في حال جرى استفتاء شعبي على مشروع القانون الذي يُراهن فيه اردوغان على مستقبله السياسي, وهو تحويل النظام البرلماني الحالي الى نظام رئاسي يمنحه المزيد من الصلاحيات وخصوصاً إحكام قبضته على مفاصل الدولة التركية بعد ان «ضَمِنَ» السلطتين التنفيذية (الحكومة) والقضائية, والى حد كبير السلطة التشريعية التي يتوفر فيها حزبه على الاغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً.
ماذا عن التصريح الخطير؟
اردوغان ومن مدينة كيليس الحدودية مع سوريا, اعلن «استعداد» تركيا لمنح جنسيتها للاجئين السوريين بالقول: انه «مُتأكد بوجود أخوة سوريين يريدون الحصول على الجنسية التركية ووزارة الداخلية اتخذت اجراءات في هذا الموضوع وستقوم بما تستطيع القيام به، من اجل مساعدة اخوتنا وتقديم الدعم لهم ومنح الجنسية».
كانت مفاجأة من العيار الثقيل، وخصوصاً انها جاءت في توقيت ظن كثيرون انه حَرِج ودقيق بالنسبة لاردوغان وسياسته السورية على وجه التحديد، بعد ان بات الرجل على قناعة ان العزلة الخانقة التي فرضتها الاحداث المتلاحقة في سوريا والمنطقة على بلاده، انما كانت نتاج الأعمال والسياسات الكيدية والقراءة الخاطئة والاحلام الخيالية التي استبدت بسيد القصر الابيض, على نحو ظن ان سوريا قد باتت «جيباً» عثمانياً خالصاً وانها لن تلبث ان تتحول الى منصة، مقراً وممراً, لإحياء المجد العثماني الغابر بنسخته الاسلاموية الجديدة وتحالفاته مع جماعة الاخوان المسلمين، لكن كل ذلك انهار وتبدد، بل باتت تركيا ساحة للتفجيرات والمواجهات التي تُهدد بتحويلها الى بؤرة ساخنة في الفوضى وربما التفكك.
موضوع التتريك (اي منح الجنسية التركية للاجئين السوريين) تدحرج ولم يقف عند مربع التساؤلات والغموض, الى ان ظهر مؤخراً وكأنه بالفعل استمرار لعملية نهب وسرقة مصانع حلب عبر تفكيكها ونقلها الى الاراضي التركية, فضلاً عن الاتجار بالنفط مع داعش وما رافق ذلك من وقائع وادانات طالت المحيط القريب من اردوغان, وها هي مسألة «الجنسية» تفضح المزيد من النِيّات المُبيّتة, حيث قالت صحيفة «خبرتُرك» ان تركيا قد تمنح جنسيتها لثلاثماية الف لاجئ سوري, ولكن من «الميسورين واصحاب الكفاءات»، في خطوة تسعى لإبقائهم على اراضيها نظراً (وهنا انتبهوا جيداً) للقيمة الاقتصادية التي يشكلونها»
ماذا عن الباقي؟
هم مجرد ارقام هنا, كما كانوا خلال صفقة العار التي عقدها داود اوغلو مع الاتحاد الاوروبي حيث تعهدت انقرة وقف اي هجرة او محاولة للجوء الى الاتحاد الاوروبي، مقابل ثلاثة مليارات دولار (تم رفعها الى ستة مليارات) وفي الاساس مقابل تعهد الاتحاد الاوروبي برفع اشتراط التأشيرة على المواطنين الاتراك.
عملية تجارية موصوفة بشعارات سياسية, وكلام اردوغاني فارغ عن «المساواة التامة بغض النظر عن الدين واللغة والعِرق والمذهب وان جميع طلبات الجنسية سيتم دراستها على هذا الاساس».
ماذا عن «المليونين» من اللاجئين السوريين؟
تذكروا ما كان قاله اردوغان ومن سار على خطه الطائفي المذهبي, عندما اتهم النظام السوري (ووحدات حماية الشعب الكردية) بانهم يقومون بعملية «تطهير عِرقي» ودفع اللاجئين نحو الحدود التركية.
أين من «هناك».. إذاً؟