ستدخل قمة حلف شمال الاطلسي (الناتو) التي انتهت للتو في العاصمة البولندية «وارسو».. التاريخ، ليس فقط لأنها عُقدت في مقر قيادة ما كان يُعرف بـ»حلف وارسو» الذي ضم في عضويته دول منظومة الدول الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي، قبل ان ينفرط عقده (الحلف) إثر تفكك الاتحاد السوفياتي وبدء تنصل الدول الاعضاء فيه من التزاماتها تجاهه، وانما ايضاً لأن «القرارات» التي اتخذها الناتو «المُعلن عنها والسرّي» واللغة العدوانية التي صيغت بها بياناته وتصريحات امينه العام ينس ستولتنبرغ كذلك خطابات قادة الدول الاعضاء وفي مقدمتهم الرئيس اوباما, الذي دعا الدول الاعضاء الى التصدي بـ «حزم» لروسيا، قد كشفت، ضمن امور اخرى، ان الناتو قد كرّس خريطة قِوى جديدة في العالم تنهض على عسكرة العلاقات الدولية وبخاصة تجاه موسكو, وأسّس لسباق تسلح جديد بات من غير المنطقي على روسيا ان تقف موقف المتفرج او لا تلجأ الى اتخاذ تدابير منها ما هو عاجل ومنها ما سيخضع لرزنامة ذات طابع استثنائي, لمواجهة هذا الزحف المنظم والمبرمج والاستفزازي الذي يقوم به الناتو على الحدود الروسيّة, متجاوزاً كل المبادئ والأُسس التي نهض عليها حوار روسيا الاطلسي، ذلك الحوار الذي بدا في لحظة ما وكأنه يؤسس لشراكة استراتيجية بين الطرفين، كانت بعض ملامحها قد اتضحت في الاتفاقات بين روسيا وواشنطن التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي وبعضها قبل ذلك بقليل في عهد ريغان – غورباتشوف – وخصوصاً المتعلق منها بتخفيض الترسانة النووية وعلى الأخص الصواريخ البالستية قصيرة ومتوسطة المدى والتي باتت الآن قيد التجميد، بعد «الخروقات» الاميركية المتواصلة وعلى رأسها نصب منظومة الدرع الصاروخية في بولندا ورومانيا وقريباً في تركيا، الأمر الذي اوصل الخلاف بين موسكو وواشنطن الى ذروته.
ما علينا..
قرارات الناتو التي صدرت في وارسو والحماسة «البولندية» غير المسبوقة لاضفاء اجواء كيدية أٌقرب الى تصفية الحساب والاستفزاز المُتعَمد لموسكو، والمحمولة على مناورات عسكرية هي الأضخم منذ انتهاء الحرب الباردة قبل ربع قرن... لم تأتِ صدفة، بل هي نتاج سياسة مدروسة ومُخطط لها بدأته واشنطن عند وصول المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض واعتمادهم سياسة الحروب الوقائية والضربات الاستباقية, وتدشينهم عصر الغزوات تحت ستار بناء الدول ونشر الديمقراطية, والمحاولات التي لم تتوقف اميركياً , لتطويق روسيا وتوسيع عضوية الناتو والتركيز خصوصاً على دول وسط وشرق اوروبا, والعمل بدأب ومثابرة على إثارة القلاقل والتحضير للثورات الملونة التي شملت دولاً اوروبية شرقية عديدة وكانت الجائزة الكبرى في اوكرانيا, عندما نجحت قبل ثلاثة اعوام تقريباً في اطاحة الرئيس المُنتخَب يانوكوفيتش والإتيان بدمية رأسمالية مشبوهة (بورشينكو) بدعم صاخب وعنيف من قبل الفاشيين الاوكران والمُمَثّلين بما يسمى القطاع الأيمن.
هل قلنا اوكرانيا؟
نعم.. فهي مسمار جحا والذريعة التي ما يزال الناتو (والاتحاد الاوروبي) يتسلى بها لـِ(شرعنة) العداء لروسيا, وخصوصاً عند الحديث عن «ضم» شبه جزيرة القرم قبل عامين ونيف وعدم تطبيق اتفاقية «مينسك2» علماً ان موسكو قد استعادت شبه الجزيرة بعد استفتاء شعبي لتقرير المصير حاز على 97% من اصوات سكانها الذين هم في غالبيتهم الساحقة من المواطنين الروس الذين كانوا يعيشون في منطقتهم «الروسيّة» اصلاً قبل ان «يُهديها» الزعيم السوفياتي (الاوكراني الأصل) نيكيتا خروتشوف لاوكرانيا, التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي في العام 1954.
وإذا كان امين عام الناتو سولتنبرغ قد قال علانية وفي اعتراف نادر: بان موسكو لا تشكل تهديداً في الوقت ذاته الذي لا يمكن اعتبارها شريكا استراتيجياً، فإن تركيز بيان الناتو على ابقاء روسيا في خانة التحدي الثاني للاطلسي (بعد تحدي الارهاب الذي يحتل الرقم واحد  ,فيما عدم الاستقرار في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يأتي ثالثاً) يزيد من القناعة بان انصار المواجهة مع موسكو واصحاب المصالح المُعلَنة مع المجمع الصناعي العسكري البترولي الذي يتحكم في السياسات الغربية الامبريالية, هم الذين «فازوا» وليس ادل على ذلك سوى الهستيريا الاطلسية المتمثلة في نشر المزيد من الوحدات والكتائب القتالية في بولندا ودول البلطيق الثلاث استونيا، لاتفيا وليتوانيا, والاستعداد الواضح لضم المزيد من دول شرق ووسط اوروبا للناتو وخصوصاً اوكرانيا التي اذا ما اصبحت عضواً في الاطلسي فإن حرباً عالمية ثالثة سيكون العد العكسي لاندلاعها قد بدأ، ما بالك وان كييف ستكون آخر المنضمين بعد ان تكون جورجيا ومقدونيا وكوسوفو (ولا ننسى هنا فنلندا والسويد) قد باتت اعضاء رسميين في الناتو خصوصاً ان الدول الخمس (بالاضافة الى اوكرانيا) شاركت في قمة وارسوالاخيرة؟
في السطر الاخير تبلغ العلاقات الروسية الاميركية (والناتو بطبيعة الحال كونه اداة اميركية بامتياز) ذروتها في التوتر والاحتمالات المفتوحة للتصعيد ، بعض تجلياته نجدها في منطقتنا وفي سوريا على وجه التحديد، كذلك تواصل واشنطن اشعال المزيد من حرائق في بحر الصين الجنوبي ليس فقط في المناورات التي تُجريها مع دول في المنطقة, بل وايضاً في توقيعها اتفاقية مع كوريا الجنوبية لنشر منظومة درع صاروخية في اراضيها, ما اثار حفيظة وغضب واحتجاج كل من الصين وروسيا حيث رأت موسكو ان ذلك يُعرّض الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة.. للخطر.
إذا لم تكن هذه اجواء حرب باردة.. فماذا تكون إذاً؟