خروج بريطانيا من أوروبا نذير شؤم للحلم التنويري

أخبار البلد - 

طرح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تساؤلات جدية حول مستقبلها كـ «مملكة متـحدة» وحـرّض فـي الوقـت نفسه على استفتاءات مماثلة في أقطار أوروبية اخرى قد تؤدي الى تهديد الاتحاد، بكل ما يعنيه من قيم التآخي الإنساني والسلام والانتماء العابر للقوميات والعصبيات، اذ مثل تجربة رائدة في تأكيد امكانية التئام البشر وتضامنهم، على رغم كل ما يفرّق بينهم، في مواجهة تحديات المستقبل الإنساني كافة.

 

 

إلا أن الدلالة الأكثر مأسوية تبقى في رأينا في ما يمثله الحدث من نذير شؤم للحلم التنويري بتوحيد البشر في اوطان او قوميات او وحدات كبرى اقليمية او قارية تمهد لوحدة الإنسانية قاطبة. ففي مقدمة المقولات الأساسية لفكر الحداثة التنويري ان ثمة معنى للتاريخ، وأنه يتقدم باستمرار في اتجاه العقلانية والحرية والوحدة على نحو ينهي في خاتمة المطاف النزاعات والحروب، ويقيم التصالح بين الأمم والشعوب الذين خلقوا كي يتعايشوا في سلام ووئام. في هذا الإطار التنويري ذهب كانط 1724 - 1804 الى ان ثمة خطة للطبيعة او للعناية الإلهية تقضي بتوحيد البشر، وأن السلام الدائم ممكن، بل انه واجب يحتمه العقل، فيما الفرقة والتجزئة والانقسام مظاهر مأسوية لـ «اللاعقلانية» التي تشكل السبب الأساسي لتخلف البشر وشقائهم.

 

 

هكذا شدد فكر الحداثة التنويري على الدولة الوطنية القومية باعتبارها البديل الحداثي لعصبيات القرون الوسطى وبلاطاتها وإماراتها التي تمعن في شرذمة المجتمعات وتخلفها ونزاعاتها اللا متناهية. في هذا السياق جاءت إدانة ماركس وأنجلز للتجزئة الألمانية «البغيضة» التي «تمزق جسد الأمة وتبدد طاقتها»، حتى أن ماركس أيد بسمارك، على رغم استبداده وطغيانه، في مسعاه إلى توحيد ألمانيا في 1870، انطلاقاً من تطلعه الى دولة قومية كبيرة موحدة ومركزية، باعتبار انها الإطار الأفضل للتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. ورأى ماركس وأنجلز والماركسيون من بعدهما في التجزئة الألمانية احد المصادر الرئيسة لمصائب الشعب الألماني على الصعيدين المادي والذهني، فقد لجمت تطور البلاد، وأنمت روح الخنوع والتخاذل عند قطاعات كبيرة من السكان.

 

 

ولم يكن الليبيراليون العرب أقل إدراكاً لأخطار الانقسام والنتاحر اللذين جرا على الشرق النكبات والهزائم، فالاتحاد سبب رقي الأمة وسعادتها، والفرقة والتعصب أصل الجهل والاستبداد والحرب الأهلية. من هنا جاء قول بطرس البستاني بالإلفة الوطنية او قول فرنسيس المراش بالمحبة الوطنية المنزهة عن التعصب الطائفي أو قول جمال الدين الأفغاني بالجامعة الإسلامية أو قول أديب إسحق بالرابطة العثمانية والمشرقية، وبعد هؤلاء دعوة أنطون سعادة إلى وحدة سورية الطبيعية أو دعوة ميشال عفلق لوحدة المشرق العربي أو دعوة أمين الريحاني لوحدة أقطار العالم العربي كافة.

 

 

هكذا يكون خروج بريطانيا من الاتحاد ليس نذير شؤم للمشروع الأوروبي كتجسيد لفكر التنوير الحداثي فحسب، وللاتحاد الأوروبي الذي حصل قبل أربع سنوات على جائزة نوبل للسلام، بل كذلك للفكر التنويري الحداثي في العالم بأسره، وبالأخص لعالمنا العربي الذي تهدده يقظة عصبوياته الطائفية والمذهبية والإثنية بالانتكاس، حتى إلى ما قبل سايكس - بيكو، في ظل تراجع التوجهات الوحدوية والانبعاث المريب للأصوليات التكفيرية ودعوات الانغلاق المحرمة.