الاستدارة التركية

لم يأتِ اعتذار الرئيس رجب طيب أردوغان لروسيا عن إسقاط تركيا الطائرة الروسية مفاجئاً للمراقبين، إذ سبقت رسالة الاعتذار التي بعثها أردوغان لنظيره فلاديمير بوتين إرهاصات عديدة باتجاه نية تركيا الاستجابة للطلب الروسي بالاعتذار قبل إعادة العلاقات بين البلدين لسابق عهدها.
الإجراءات العسكرية التي اتخذتها روسيا بعد إسقاط طائرتها، أدت إلى تكبيل يدي تركيا في سورية، وحدت من قدرتها على التدخل والتأثير بالأزمة السورية لدرجة كبيرة، سواء كان ذلك من جهة تقديم الدعم العسكري للتنظيمات الموالية لتركيا، أو من جهة توجيه ضربات عسكرية لداعش في سورية، أو للقوى الكردية التي تلقت دعماً روسياً وأميركياً في الوقت نفسه. باختصار؛ خلال سبعة أشهر، خسرت تركيا قدرتها بالتأثير على الأزمة السورية وأصبح دورها هامشياً، وبدأت تعاني من تداعيات ذلك، وبخاصة الضربات الموجعة التي وجهها "داعش" للداخل التركي. ولا يوازي تراجع دور تركيا بالتأثير على الأزمة السورية سوى الخسائر الاقتصادية الفادحة التي تكبدتها تركيا نتيجة للحصار والمقاطعة الاقتصادية الروسية لتركيا والتي تقدر بعشرات المليارات. ولا نستطيع كذلك إهمال التوتر الكبير بالعلاقة التركية الأميركية، وبخاصة حيال دعم الأخيرة للقوى الكردية داخل سورية كعامل مهم في التوجه لتطبيع العلاقات مع روسيا. لقد أصبحت القوى الكردية جزءاً مهماً من الاستراتيجية الأميركية في محاربة "داعش"، مع رفض الولايات المتحدة المتكرر للطلبات التركية لوقف الدعم للأكراد، والخشية التركية من إقامة دولة كردية داخل سورية، والتداعيات المحتملة لذلك على علاقة تركيا مع أكرادها والأكراد في العراق. كذلك، تشعر تركيا بالخذلان نتيجة للموقف الأميركي من الأزمة السورية ورفض الولايات المتحدة إقامة منطقة عازله داخل سورية، وكذلك إسقاط شرط تنحي الأسد عن الحكم والذي كان مطلباً تركياً للتوصل لاتفاق ينهي الأزمة السورية. بالإضافة لذلك، باتت تركيا تُدرك أنه من غير الممكن تجاهل تحول روسيا إلى لاعب رئيس في الأزمة السورية، لا يمكن تجاوزه إذا أرادت تركيا أن يكون لها دور في مستقبل سورية.
لذلك، فالاعتذار لروسيا يسعى إلى استعادة تركيا لدورها في الأزمة السورية وذلك لأهمية سورية لتركيا. وتطبيع العلاقات مع روسيا كفيل أيضاً بإنهاء الحصار الاقتصادي الروسي على تركيا نتيجة ذلك. هذه الخطوة أيضاً تمكّن تركيا من الاستفادة من العلاقات القوية التي تربط بين روسيا والأكراد السوريين وبالتالي إمكانية أن يكون لروسيا تأثير إيجابي في هذا الملف.
الاعتذار التركي لروسيا كفيل بأن يفتح المجال لعودة العلاقات بين البلدين لسابق عهدها وإن كان بشكل تدريجي، وتخفيف الأعباء والمشاكل التي نتجت عن ردة الفعل القوية لروسيا على إسقاط إحدى طائراتها. ويفسح المجال لاستعادة الدور التركي بسورية وإن كان باتجاهات مختلفة. فوائد تطبيع العلاقات ليست كلها تركية، فروسيا أيضاً ستكون رابحة منه اقتصادياً وقد تستطيع الاستفادة من تركيا في حل الأزمة السورية لاسيما أن تركيا ما تزال تتمتع بعلاقات قوية مع المعارضة السورية المسلحة في شمال سورية.
الاعتذار التركي يشكل استدارة كاملة للسياسة التركية الإقليمية، ويؤشر إلى بداية التخلي عن طموحاتها الكبرى في سورية. وإذا ما أخذنا الاتفاق التركي الإسرائيلي لتطبيع العلاقات بينهما بعين الاعتبار، فليس من المستبعد أن تكون المحطة التالية لتركيا هي تطبيع العلاقات مع مصر.
يبدو أن الواقعية السياسية ستكون سمة السياسة الخارجية التركية في المرحلة المقبلة.