سَرَق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الاضواء هذه المرة, على نحو غير مسبوق، بعد ان بدا – للوهلة الأولى – وكأنه قد تراجع عن مواقفه المتشددة المحمولة دوماً على ثقافة الاستعلاء والمكابَرة, التي تغرِف من ثقافة عثمانية راسخة, تقوم في الأساس على تسخير الآخرين واستعبادهم لصالح مشروع استعماري في مضمونه وسيرورته, ولكن في استغلال واضح للدين وتوظيف له تحت شعار «دولة الخلافة» وغيرها ممن استند اليه الخطاب العثماني قبل ان يسقط ويندحر، ويراد بعثه الآن من موته الطويل, ولكن وفق شعارات «عصرية» تستند إلى قوى استعمارية «جديدة» تمتلك المعرفة والقوة والقدرات، لدفعه الى الأمام، والهدف المشترك لكليهما هو الطمس على العروبة والغاء الرابطة القومية الجامِعة, والعزف على نشيد اسلاموي يرى في الاستسلام لمشروعات الأعداء حكمة وتعقلا.. وخصوصاً اعتدالاً.
ما علينا..
يُدرك المسؤولون الروس الفرق في المعنى والدلالة, بين التعبير عن «الأَسَف» وبين كلمة ومفهوم «الاعتذار»، ولهذا لم تكن سذاجة او تسرعاً من الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف, عندما اذاع مضامين، بل نشر مقاطع من الرسالة التي بعث بها الرئيس التركي لنظيره الروسي، وفي الأساس كلمة «نعتذر».. ما أفسح في المجال لوسائل الاعلام ووكالات الأنباء العالمية الى المسارعة لنشر خبر الاعتذار التركي عن اسقاط الطائرة الحربية الروسية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي، بما هو أحد الشروط بل الشرط الأساس لموسكو اذا ما ارادت انقرة التكفير عن «الطعنة في الظهر» التي وجّهَتها لمن كانت تعتبرها ذات يوم شريكاً استراتيجياً وجاراً, يمكن الارتقاء بالعلاقات التجارية وخصوصاً الاقتصادية معه, الى مستويات اعلى رغم خصومات السياسة والتحالفات التي تضعهما في خندقين مُتقابلين، وبخاصة ان تركيا في علاقاتها مع موسكو, بقيت على حال العداء لها, سواء كانت موسكو سوفياتية ام واصلت هويتها الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة, وخصوصاً تمسكها بهويتها الأطلسية وانخراطها في مشاريع واشنطن لتطويق روسيا «عسكرياً» لهذا كان لافتا وغريبا ان تُبقي انقرة على صمتها حيال ما نشرته موسكو, ثم ليخرج رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم على قناة تلفزيونية تركية ليقول: ان انقرة اعربت عن «اسفها» وحزنها, واذا لزم الامر – اضاف ــ سندفع تعويضات.. ما يعني – ضمن امور اخرى – ان انقرة تجد نفسها في حرج شديد, بعد أن كانت رفعت سقف التحدّي عالياً وطالبت موسكو نفسها بالاعتذار وليس على انقرة عمل ذلك, فاذا بها وبعد ان «طبّعت» علاقاتها مع اسرائيل, وما حمله ذلك «التطبيع» من حملات انتقاد وهجاء للخطوة التركية التي باعت فيها «مَرْعِيّتها» حركة حماس لصالح تل ابيب, تجد نفسها مُعتذِرة من موسكو عن اسقاط الطائرة,و مُجبَرَة على التراجع عن «تحديها» وتنفيذ «شروط» روسيا, ما ادى الى ارتباك في اوساط الدبلوماسية التركية فضلاً عما احدثته تلك الخطوة – تجاه روسيا – من ذهول في اوساط عديدة على رأسها بالطبع الولايات المتحدة الاميركية التي اكدت انها لم تكن على «ادنى عِلم» باعتذار اردوغان من بوتين. ما يعني في مصطلحات الدبلوماسية الاميركية ان «الامر» جرى من خلف ظهرها.
هل قلنا التطبيع مع اسرائيل؟
نعم.. فإن ما بدأت الصحافة الاسرائيلية تكشفه من تفصيلات واسرار حول طبيعة ومضامين صفقة التطبيع, يشي بأن ما حصل يتجاوز مفهوم التطبيع الذي هو في معناه الاجرائي (اعادة الامور الى طبيعتها بعد توتر او جفاء او قطيعة بين طرفين, عبر تقديم تنازلات متبادلة) الى ما ابعد من ذلك بكثير, حيث تم الاتفاق على تكريس حلف استراتيجي جديد, أمني واستخباري وعسكري لمواجهة المستجدات في المنطقة وخصوصاً في سوريا, وقيام انقرة بمزيد من تدخلها في الشأن السوري وزيادة دعم الجماعات المسلحة المناهضة للنظام السوري, وتوجيه جهود اكبر من اجل منع «طهران» من السيطرة على سوريا (وكان لافتا اطاحته رئيس استخباراته المُقرب منه, حاقان فيدان, استجابة لطلب اسرائيل التي تتهمه بكشف شبكاتها التجسسية في ايران) فضلاً عن مساعدة الاستخبارات التركية اسرائيل في كشف خلايا ونشاطات حزب الله وغيره من المنظمات والفصائل الفلسطينية (دون ان ننسى موافقة انقرة على عدم السماح لحركة حماس باستخدام الاراضي التركية لأي نشاط عسكري أو تخطيط عمليات أو جمع اموال).
في السطر الاخير يبدو الإفراط في التفاؤل ازاء «الاستدارات» التركية التي حدثت وتلك المتوقعة, مسألة رغائبية اكثر منها واقعية أو مستندة الى تحليل عقلاني, يأخذ بالاسباب والنتائج, لأن العزلة الخانقة التي وجدت انقرة نفسها فيها, هي التي املت عليها هذه الخطوات (التي لم تُحسَم بعد) وليست المراجعة او التراجع عن مواقف خاطئة اقرب الى الخطايا,قارفها الرئيس التركي والبطانة اللصيقة به, والتي زيّنت له مشروعه العثماني الجديد الذي سيبدأ من سوريا بعد اسقاط دولتها وسلخها عن عروبتها واستخدامها منصة لإعادة إحياء «العثمانية الجديدة».
الايام المقبلة ستكشف «المخبوء» ولا بد من الانتظار.