التلفزيون الأردني .. بين الأمس والغد



لعب التلفزيون الاردني وعلى مدى عقدين من الزمن بعد انطلاقته عام 1968 ، وبامكانات مادية وتقنية محدودة ، ولكن بادارة جريئة وكفاءات بشرية طموحة دور منارة اعلامية مميزة ، محليا واقليميا. فكان الواحة الوارفة المفتوحة للثقافة والترفيه والتسلية ، وكان المنبع للخبر الجاد والرأي المتوازن. واحتل بالتدريج مرتبة الصرح الاعلامي الفريد والشريك العملي والواقعي لكل الناس في الاردن وما حوله في همومهم وأحلامهم.

في مطلع تسعينيات القرن الماضي ولد عصر البث التلفزيوني المباشر بمبادرة من محطة (ٍسى ان ان) التي نقلت ولأول مرة في التاريخ أرض المعركة العسكرية في العراق الى كل بيت في العالم بصوت وصورة مراسلها أنذاك في بغداد «بيتر أرنت»، فكانت هذه النقلة نقطة تحول فعلي في تاريخ البث التلفزيوني ، فتحت افاقا جديدة في عالم الاتصالات بين المجتمعات ، مما شجع على ظهور محطات ما تزال تخترق الفضاء الواسع المحيط بكرتنا الارضية ، بكل ما هو مبتكر وجاذب ومنافس في عالم الاخبار والمنوعات ،وحتى الاحداث قبل ان تصل خواتمها المختلفة.
امام هذا التحول التقني الكبير وجد التلفزيون الاردني نفسه يقف على نفس المسافة ، الى جانب محطات التلفزيون الناشئة الطموحة في المنطقة ، من درجة التنافس على زيادة نسبة المشاهدة عن طريق تحسين الاداء والمضمون. حتى ان بعض تلك المحطات الجديدة المنافسة استقطبت خبرات وكفاءات كان التلفزيون الاردني حاضنتها الاولى.
بالتدريج بدأت أعين المشاهدين في الاردن وخارجه تبحث عن المحطات الجديدة التي تسند بعضها ميزانيات ضخمة تفوق أحيانا ما ينفق على الجامعات أو مراكز البحوث العلمية أو الجيوش. وبات الوضع غامضا لأن سلاح الاعلام هو من أهم الاسلحة التي تحتاجها الشعوب والدول ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة ، فهناك في بعض الدول محطات تلفزيونية تابعة لاحزاب محلية تزاحم بشراسة محطات «الدولة» على اجتذاب المشاهدين.
مثل كثير من الغيورين على صورة الاردن الذين كانوا يلاحظون الثغرات ، هنا وهناك ، وليس بيدهم حيلة الا المراقبة والتمني ، تابعت التغيير الهام الاخير في ادارة التلفزيون الاردني كخطوة طال انتظارها ، وبقي ان ننتظر الدورة البرامجية الجديدة وربما أكثر من دورة واحدة ، لنرى عمق ومدى التغيير الذي سينعكس على الشاشة ، مع التأكيد على ضرورة اسناد هذا التغيير بسخاء معنوي ومادي غير مسبوقين. فاذا كانت الجيوش تزحف على بطونها فان محطات التلفزيون الناجحة تحلق في فضاء غير محدود من التنافس والابداع على أيدي من يدير دفة الامور من الداخل.
ذكرني هذا التغيير في ادارة التلفزيوني الاردني باختراق طبي وعلمي تحقق عام 1864 على يد الكيميائي الفرنسي «لويس باستور» الذي بدأ بتعقيم المشروبات المتداولة بين الناس وخاصة حليب الاطفال للتخلص من البكتيريا الضارة القابعة فيها ، حتى ان اسم هذا الرجل تحول الى فعل بكل اللغات فأصبح العالم كله « يبستر» كل ما يشرب لكي تستمر الحياة بصحة وعافية!
الغيورون على التلفزيون الاردني أكثر عددا وعدة مما يتصوره البعض ، ويعود الفضل في جزء هام مما ترسخ في وجدان هؤلاء من قيم وافكار وانحيازات لهذا الصرح الاعلامي في أوج عطائه ، وجل ما يتمنونه اليوم هو ان يلمسوا في الغد القريب قليلا من «البسترة» على ما تعرضه شاشة هذه المؤسسة الوطنية العريقة ليعود الصفاء والوئام لسابق عهدهما وأكثر!