أمي والبرتقالة

لن يكون المشهد الذي سأرويه جزءاً من فيلم سينمائي أو رواية كتبها فيكتور هيجو، بل هي حادثة واقعية جرت قبل أكثر من 55 عاماً. إذ كانت العائلة الصغيرة المكونة من نورة وابنتها فاطمة وابن فاطمة فهد وعمره أربع سنوات آنذاك تقطن في حلة القصمان (حي أغلبية سكانه من منطقة القصيم التي تبعد حوالى 400 كيلو متر من الرياض) في مدينة الرياض في بيت طيني صغير لا تتجاوز مساحته أحد الملاحق في منازل اليوم، (كان الأب يعمل في مدينة الخرج).

 

 

قدِم صالح أخو فاطمة لهم مبتهجاً وهو يحمل حبات من البرتقال اشتراها بقدرة قادر، إذ الضنك والجوع والفقر المدقع تلك الأيام، وكان نصيب أخته برتقالة. فاطمة آنذاك حامل وتنتظر الولادة بين لحظة وأخرى، شعرت بالسعادة البالغة ليس لكونها ستأكل البرتقالة، ولكن لأنها ستعطيها لفهد ابنها، وفجأة أحست بالطلق، وكونها كفيفة أمسكت أمها بيدها وقادتها إلى غرفة في منزل أخيها المجاور سليمان، رحمه الله، حيث لا مستشفى للولادة، ومخاطر الولادة أكثر بكثير من احتمالات البقاء على قيد الحياة.

 

 

دب الرعب بقلب فاطمة ليس هلعاً من الموت كما تعتقدون، ولكن خوفاً من أن تموت أثناء الولادة وهو احتمال كبير وارد قبل أن يأكل فهد البرتقالة. لذا وبمجرد أن اتجهت إلى غرفة الولادة أمسكت بيد فهد وسحبته وساقاه تلامسان الأرض ممانعاً المشي معطية إياه البرتقالة بعد تقشيرها، واتجها معاً إلى الغرفة، وبدأت ولادتها في الوقت الذي كان فيه ابنها يتلذذ بأكل البرتقالة بكل براءة.

 

 

تبخر شعور الألم الرهيب الذي تحسه الأم أثناء ولادتها، وكان صوت الابن وهو يمضغ البرتقالة إبرة التخدير التي يتم حقنها الآن لكل من تتهيأ للولادة تخفيفاً لألم الولادة الرهيب، وبعدها أطل رأس أحمد وجسمه الصغير متلهفاً للقاء حاملته بعد تسعة أشهر من الحضن الدافئ الأمين.

 

 

أبطال القصة الحقيقية أعلاه هم جدتي وأمي وأخي وأخوالي وأنا. ذلك الجنين الذي كان يريد الخروج إلى الحياة في ذلك الوقت. سلوك أمي الغريزي هو نسخة مكررة لكل أم، سواءً أكانت في زمهرير سيبيريا أو ألاسكا، أم قيظ نيفادا أو الربع الخالي.. (كم يحلو لنا، فهد وأنا، أن نستعيد قصة البرتقالة من أمي في كل مناسبة أو مشكلة أو معاناة.. فنقارن وضعنا آنذاك بما نحن فيه الآن فنشعر بالسعادة والأمان).

 

 

هل يا ترى استمرت تلك العلاقة القدسية ما بين الأم وأبنائها أو بناتها؟

 

 

من شاهد الحلقة التي قدمها الأستاذ داود الشريان عن الأمهات اللاتي طردهن أبناؤهن لأسباب مادية بحتة أصيب بالصدمة والدهشة والذهول! كيف ولماذا؟ هل من الممكن أن تبلغ القسوة بشخص أن يطرد والدته؟ أين الحب؟ أين الوفاء؟ أين حمرة الخجل؟ كيف يتسنى لإنسان أن ينام قرير العين ووالدته تهيم في الشوارع والطرقات من دون مأوى؟

 

 

نسمع أحياناً عن تقصير من أبناء تجاه أمهاتهم أو آبائهم، أو حتى غضب من أب تجاه ابنه، لكن يا ترى هل سمعنا عن أم تنبذ أبنائها؟

 

 

صعب جداً، بل يكاد أن يكون مستحيلاً، إنها علاقة سامية متفانية تتخللها التضحية والعطاء «اللامحدود» ومن دون مقابل.

 

 

قبل عامين فجع صديقي وحبيبي الدكتور عبدالسلام الوايل وزوجته هند الصامل بإصابة طفلتهما بسكري الأطفال. وبسبب الخوف من انخفاض سكر الطفلة وهي نائمة فإن الأم، التي تعمل معلمة أصبحت لا تعرف النوم العميق، وصارت أنشطتها مركزة برعاية البنت المنكوبة بالمرض الذي يتطلب مراقبة دائمة.

 

 

كتب عبدالسلام مغرداً: «عدت إلى البيت وجدت زوجتي نائمة، هدها تعب التدريس. يدها مرفوعة تحمل إبرة الأنسولين لسارة التي لم تعد بعد من المدرسة. آه من قلب الأم كم يتسع للكثير من معاناة أطفالها منذ ظهورهم للحياة حتى مغادرتها هي للحياة».