هل غادر الشعراء..؟!

لطالما وُصفت "العربية" دائماً بأنها لغة شِعر. وفي حين يُحيل البعض هذه السمة إلى ثراء اللغة بالمفردات، وتعدد المترادفات والخيارات الدلالية، يميل آخرون -في سياق السخط على الهوية- إلى استعارة التفسير الاستشراقي؛ فيعتبرون شِعرية العربية تعبيراً عن الحسّية وغلَبة الخطابة الجوفاء على المنطق العملي. لكن أمم المستشرقين "العقلانية" نفسها تحتفي بالشعر وتتباهى بشعرائها، كجزء من الهوية الروحية والثقافية التي لا تتعارض مع العلوم البحتة والتقدم الدنيوي، ولا تلغيهما. ودائماً تُمنح الجوائر العالمية للشعراء والأدباء من مختلف الأماكن -وإنما ليس لأصحاب العربية.
مرَّ الشعر العربي بتحولات في القرن الماضي، أبرزها الثورة على قوالبه التقليدية "البحور". وتأثرت هذه الانتقالة بوضوح بانقلاب الشعر الإنجليزي على مقاييسه، بقيادة عزرا باوند وإليوت، بطريقة حررته شكلاً وموضوعاً. وبعد تردد، قبلت الذائقة العربية بتغيير مماثل، ربما لأن رواد القصيدة العربية الجديدة احتفظوا بموسيقى الشعر وإيقاعاته. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، تضج قصيدة السياب "أنشودة المطر" بالموسيقى والانفعالات، مثلما هي قصيدة الفيتوري "رحل النهار"، أو قصيدة درويش "درس من كاما سوطرا"، ومعظم الشعر الحقيقي الذي يدخل العقل والقلب بلا عناء.
المشكلة في هذه الانتقالة، هي أنها ميعت إلى حد ما تعريف الشِّعر وجعلته فضفاضاً. وأغرت هذه المرونة كل محب للمغامرة بقرض "الشعر". وفي كثير من الأحيان، كان فعل "القرض" حقيقياً جداً، على طريقة القوارض، بحيث كان عمل هؤلاء على الشعر مثل عمل القوارض على أساسات البناء أو خشب خزانة الملابس.
مثلاً، ثمة ظاهرة "الأكاديمي الشاعر"، حيث يفترض الأكاديمي أو المفكر النظري أن كونه سلطة في مجاله تؤهله لأن يكون شاعراً. وبدل الاعتقاد بأن الإبداع في التخصص إنجاز لا يقل عن نظم الشعر -باختلاف السمات- فإنه يشعر بالنقص إذا لم يلِمَّ بقرية الشِعر ويترك فيها "بصمته". أما المختص بالأدب العربي -أو أي أدب أجنبي- فإن وهم الشاعرية في كثير من الحالات يصبح عنده طاغياً تماماً، فلا يكتفي بممارسة النقد وتعاطي النظرية، وإنما "يبدع" قصائد، ربما لأنه يحتفظ بصورة احتفاء القبيلة القديم بميلاد شاعر.
الظاهرة المصاحبة، هي مجاملات "الوسط" الثقافي. فإذا كتب صاحبي شيئاً واستمزجني فيه -أو نشره في مطبوعة أو مكان- امتدحتُه ووضعته محل المتنبي والسياب. ورأينا أصحاب أسماء وازنة في الأدب، يضعون شهاداتهم -كتابة- في تقديم أعمال ليست مقنعة على أقل تقدير؛ أو خطابة في شكل المشاركة في ندوات أو توقيعات -لأجل الصداقة أو استجابة لقاعدة تقديم السبت من أجل الأحد. لذلك غصَّ المشهد بالشعراء، والروائيين والقاصين الذين يؤثرون فقط مثل نقرة نقطة مطر على نافذتك في شتاء غزير. لكن الأمور -يا للغرابة- تنفع، ويحمل المئات لقب "أديب" ويكتبون على "فيسبوك": في مطار الملكة علياء للمشاركة في مهرجان...!
إحدى وسائل ادعاء الأدب "الحداثي"، التورط في الابتذال، فتُقحم مفردات أو تخييلات حسِّية بغير موجب ولا سياق. ويُحسَب هذا التورط على التجريب والجرأة على ارتياد المجهول، كما ينبغي للمبدع. وفي الحقيقة، نستغرب وصف عمر ابن أبي ربيعة وأبي نواس بالمجون أمام هؤلاء. لكن الشاعر قد يوصف بالمجون ويبقى شاعرا. أين من يقول شيئاً مثل "ليت هنداً أنجزتنا ما تعد..." أو "حاملُ الهوى تعِبُ، يستخفه الطرب"؟ إذا كان "شاعر" اليوم يقول مثل ذلك، ثم كل ما يريد بعد ذلك، قد نسميه "شاعرا ماجنا". أما أن يقول كل شيء إلا الشعر، فلم لا نصفه بما هو: "ماجن". نقطة؟!
وثمة "الغموض". وأفضل طرق الغموض هي تضييع المتلقي في فوضى المفردات وتعثر السياق وعدم العثور على عاطفة أو فكرة. ومع هذا "الغموض" الذي يفترض أنه يجسد عمقاً أفلاطونياً وجماليات أرسطية، يتفنن "النقاد" في التأويل. وإذا كان "الناقد" صاحب لغة وخيال، فإنه يصنع معلقة أسطورية من جُمل بلا معنى، خاصة إذا صدرت عن أستاذ جامعة، أو إعلامي مهم، أو سياسيّ بارز. والقاعدة أن هؤلاء لا يمكن أن ينطقوا عن الهوى، ولا بُدّ أن آلاف المعاني تدور في "بطن" الشاعر، وما على الناقد سوى الغوص وجلب الصدَفات.
ثمة مع ذلك شعراء حقيقيون. لكنهم يختنقون بتدافع المدَّعين، أو يغادرون -ببساطة لأنه لم يعد ثمة متسع.