لم يُثِر خبر افتتاح نفق «غوتهارد» الذي دشّنه أربعة زعماء أوروبيين قبل أيام، أي ردود فعل عربية، ولم يحْظَ بأي متابعة من قبل أي دوائر في جامعة الدول العربية (..) ولو لمحاولة التذكير بما باتت عليه «دبلوماسية المصالح» التي تتحكم في مسار كثير من دول العالم، فيما ينهمك العرب الذين يُكثرون من الحديث (الفارغ بالمناسبة) عن الوحدة والتكامل والأخوّة والعمل المشترك وغيرها من المفردات والمصطلحات التي لم تعد تُثير في الجمهور العربي اي ردّ فعل، بعد ان خَبِرت الشعوب العربية زيف تلك الشعارات وتهافت ذلك الخطاب الذي تردده أجهزة الإعلام العربي, التي باتت مجرد أبواق تبرر سياسات الأنظمة وتدافع عن خطاياها، دون ان تتوقف ولا للحظة واحدة للحديث عن الارقام والمعطيات المُعزّزة بالوقائع وما – مثلاً – حجم التجارة البينية بين الدول العربية, وكذا تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات دعّ عنك حرية تنقّل الأيدي العاملة والمواطنين العاديين وتجارة الترانزيت وكم عدد شركات النقل البري او الجوي والبحري او السكك الحديدية التي تعكس التكامل والرغبة في رفع حجوم التجارة وقطاعات الزراعة والسياحة وغيرها من القطاعات الانتاجية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن النفق الذي افتتحته سويسرا في الأول من حزيران الجاري, يعتبر أطول وأعمق نفق لسكك الحديد في العالم، حيث يمتد لمسافة 57 كيلومتراً بعد ان استغرقت أعمال بنائه 17 عاماً. فلكم أن تتخيّلوا معنى استمرار العمل بنفق كهذا، لم يتوقف للحظة ولم تُعكِّر صفو القائمين على انجازه الخلافات السياسية اومسألة « السيادة « ولا نسبة مشاركة هذا العدد من العمال والفنيين السويسريين أو الإيطاليين أو جنسية أي دولة يعبرها هذا النفق الذي يربط شمال أوروبا بجنوبها (في إيطاليا) وكيف «امتطى» الزعماء الأوروبيون الأربعة قطار التدشين في رحلته الأولى وجلسوا على المقاعد المُخصصة بأريحية وابتسامات فَرِحَة, بعيداً عن التكلّف والتجهم وافتعال الجديّة (او عكسها).. في حدث يكاد يكون مستحيل التنفيذ واحتمالات نجاح الفكرة قبل عقود من وصول قادة تلك الدول الى مواقعهم الا أن مصالح شعوبهم المشتركة تُحتم عليهم تجاوز كل أنواع الخلافات والعمل على حلّها بدل تعميقها وقطع أواصر الشراكة التي تعود بالفائدة على الجميع، بصرف النظر عن مرارات التاريخ وحزازات الماضي.
يواصل الأوروبيون تنفيذ ما اتفقوا عليه وما تواضعوا على إنجازه، رغم كل التحديات والمخاطر «الجديّة» التي تتعرض لها مسيرة الاتحاد والمهددة بالانفراط ربما او مواجهة الكثير من الاخفاقات وبروز المزيد من الخلافات, وخصوصاً في الاستحقاق «البريطاني» الأخطر الذي ستُعرَف نتائجه مساء الثالث والعشرين من الشهر الجاري, عندما يقرّر البريطانيون ما إذا كانوا سيبقون في الاتحاد أم يختاروا الخروج وقطع اصلة بلادهم والتزاماتها إزاء الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الخلافات التي تعصف بدول الاتحاد ازاء تدفق المهاجرين والمواقف المتباينة التي تتخذها الدول الأعضاء حيث هناك من يرحب ولو بحذر, يقابله مَن يرفض بشدة ويهدد بمغادرة الاتحاد أو تعليق عضويته، لكن خلافاتهم لا تصل حدود القطيعة او تذهب إلى نهاية الشوط على الطريقة العربية.
لافتة كانت المشاركة الرمزية لبعض الشخصيات الدينية حيث تواجد هناك قس كاثوليكي وآخر بروتستانتي وإمام مسلم وحاخام يهودي، في الوقت ذاته الذي قال فيه الرئيس السويسري: إن هذا النفق «سيجمع شعوب واقتصادات أوروبا»، في اصرار على تقديم التفاؤل واستبعاد التشاؤم ، رغم وجود أسباب تدعو إلى ذلك, لكنها إرادة «الجمع» في مقابل ارادة القسمة والطرح والضرب.التي باتت قناعة راسخة لدى معظم الأنظمة العربية القائمة.
يتحدثون في أوروبا عن «الثورة» في خدمات النقل والشحن في أوروبا، التي سيُحدِثها هذا النفق، فيما في بلاد العرب لا يتوقف الحديث عن «ثورات» تهدم وتدمر وتقتل وتسفك الدماء وتقطع كل الصلات والعلاقات والمصالح التي تجمع الشعوب العربية، ويزداد الحديث عن الطائفية والمذهبية والاستحضار الذي لا يتوقف للماضي المُثقَل بالمذابح والخلافات والحروب العبثية والاصرار على ان ما يجري هو امتداد لما قارفه وارتكبه الأجداد وكأن الأحفاد محكومون بالموت والفناء والشقاء.