أيام.. في فيتنام !


 

في خمسينات القرن الماضي حينما كانت الحرب الاميركية على فيتنام تحرق الاخضر واليابس ونحن في الحركة العالمية لأنصار السلام نخرج في مظاهرات منددة بذلك العدوان على شعب صغير فقير آمن يريد أن يستكمل تحريره ويحكم نفسه بنفسه ، ثم بعد ذلك ونحن في مهرجان الشباب العالمي في صوفيا (بلغاريا) عام 1968 نهتف للابطال في فيتنام ونستنكر تآمر اسرائيل ضدهم متمثلاً في مشاركة موشي ديان نفسه في تدريب القوات العميلة في الجنوب، لم يخطر ببالي أنني سأحظى بزيارتها في أي يوم من الأيام لكن الرغبة ظلت كامنة في نفسي الى أن استيقظتْ دفعة واحدة حينما ابلغني صديقي العضو في جمعية اصدقاء الآثار والتراث – وهو يعرف رغبتي جيداً – أن الجمعية تنظم رحلة الى فيتنام فقررت الاشتراك بها دون تردد.
وبدأت ارسم في مخيلتي صورة لذلك البلد الذي خاض بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة هوشي منْه حرباً باسلة للتخلص من استعمار فرنسي غاشم جثم على صدره قرابة المائة عام وتكللت تلك الحرب التحريرية بالنصر عام 1954 في ديْين بيان فو وهي اشهر معركة ضد المستعمرين عرفها القرن العشرون وقادها الجنرال جياب ودامت 55 يوماً وبلغ عدد ضحاياها 3000 فرنسي و8 آلاف فيتنامي وادت الى اعلان استقلال الجزء الشمالي من البلاد واصبح يدعى فيتنام الشمالية وعاصمتها هانوي، وعندما قررت هذه ان تواصل الكفاح لتحرير الجزء الجنوبي وعاصمته سايغون استعانت فرنسا بحليفتها الكبرى اميركا التي سرعان ما استجابت لها رغم انها لم تكن قد استراحت (!) من حربها في كوريا الا قليلاً، وكان الهدف المعلن لهذا التدخل الاميركي هو صد المد الشيوعي القادم من الشمال أما الغرض الحقيقي فكان حلول الاستعمار الاميركي الجديد القوي القادر محل الاستعمار القديم الآفل المتمثل هناك في فرنسا.
واستمرت تلك الحرب الضروس من عام 1955 الى عام 1975 وخلفت من الضحايا ثلاثة ملايين فيتنامي وثمانية وخمسين الف اميركي وانتهت بهزيمة نكراء لأميركا التي جررت اذيالها في صورة حية مهينة لا تمّحي قط من الذاكرة المعاصرة فقد شاهدها ملايين الناس على شاشات التلفزيون في جميع انحاء العالم حين حلقّت هاربةً آخرُ طائرة هيليكوبتر أميركية من على سطح السفارة الاميركية في سايغون (التي اصبح اسمها الآن هوشي منْه) ويتكدس فيها من تبقى من موظفيها وعملائها وأحدهم يتعلق بحبل الطائرة ويكاد يسقط وهو يحاول النجاة بجلده !
قبل بدء الرحلة الى فيتنام بيوم واحد وبالصدفة البحتة وصلني بالبريد الالكتروني من صديق مهتم نص المقابلة التي اجرتها مجلة People’s World الشهر الماضي (25 /4/ 2016) مع Bui The Giang المدير العام لشؤون اوروبا الغربية واميركا الشمالية في الحزب الشيوعي الفيتنامي/ لجنة العلاقات الخارجية ، وفيها حديث معمق معه عن (مسيرة فيتنام نحو الازدهار الاقتصادي مع التزامها بمبادئ التيار العريض للاشتراكية وصلابتها في المحافظة على إرث القائد الثوري هوشي منْه، وكيف بدأت منذ ثلاثة عقود ما تسميه عملية التجديد التي حققت تطوراً سريعاً بعد سنوات طويلة من الحرب والمجاعة والفقر، وكيف ان خطتها في الجمع بين اهدافها الاشتراكية واقتصاد السوق قد شهدت مكاسب عديدة لكنها في نفس الوقت جلبت اخطاراً جديدة).
وقد افادني هذا الحديث في فهم كثير مما كنت ارى واسمع والاحظ اثناء زيارتي وشكّل انطباعاتي الاولية عن ازدهارٍ تمثلت ملامحه في مطارات حديثة كبيرة وطرق خارجية سريعة كتلك التي في اوروبا واميركا، واسواقٍ تتوفر فيها كثير من البضائع المستوردة الى جانب الاسواق الفيتنامية القديمة المليئة بالمصنوعات المحلية، ومما اسعدني غياب اي اثر من آثار الدمار بعد الحرب الطويلة فالبيوت والعمارات مرممة نظيفة صالحة مستعملة كما كانت من قبل دون تغيير على طابعها الأصلي، ولا تزاحمها الابنية الجديدة والابراج المرتفعة، كما أعجبتني الخدمات السياحية المنظمة في الفنادق والمطاعم لدرجة عالية من الرقي والاتقان، وفي المنتجعات المؤهلة لاستقبال ملايين السواح بما في ذلك الرحلات البحرية الى الجزر الفيتنامية الجميلة في المحيط الهادي.. ولقد لفت نظري الاستعمال الواسع الانتشار للدراجات النارية الصغيرة في التنقل ولعله يصلح لحل جزء من مشكلة ازدحام شوارعنا باكثر من مليون سيارة ! وباختصار وكما اسلفت فان كل ما ذكرت مجرد انطباعات أولية لكنها للانصاف بددت مخاوفي من تكرار بعض مظاهر القتامة والتقشف التي لمسناها في دول اوروبا الشرقية حين كانت (اشتراكية).
وبعد.. فقد قيل لنا في هانوي كتعبير عن الاعتزاز بتاريخها المعاصر ان فيتنام خرجت في اكبر جنازاتها الوطنية ثلاث مرات، الاولى جنازة زعيمها التاريخي هوشي منْه عام 1969 والثانية جنازة الجنرال جياب (بطل معركة ديْين بيان فو) عام 2003 وقد توفي عن مائة وثلاثة اعوام ، والثالثة جنازة Thangh بطل الحرب الجديدة في مكافحة الفساد الذي توفي عام 2015 وللاخيرة دلالة بالغة الأهمية..
ومازال في الجعبة عن فيتنام ما يستحق التأمل والاعتبار..