«رحلة الى طوكيو» لأوزو: سينما الشيخوخة والموت والحياة

ربما يحدث أحياناً حين يجد المرء نفسه محاولاً وضع لائحة بأهم عشرين فيلماً في تاريخ السينما العالمية، أن يسهى عن باله إيراد عنوان لواحد من أفلام الياباني يوسيجيرو أوزو في تلك اللائحة، لكنه إن نُبّه إلى ذلك سيخبط على رأسه بحماسة ويقول: أجل بالطبع. وربما يضع عنوانين لا عنواناً واحداً. ربما يضع «طعم الساكي» ولكن بالتأكيد «رحلة الى طوكيو». فعلى رغم ان هذا الفيلم الأخير هو في نهاية الأمر فيلم عن الشيخوخة والموت يتسم بقدر كبير من الشجن والحزن والحركة البطيئة والوجوه الصامتة، فإنه فيلم ساحر وربما تكمن جدليته الأساسية في تلك القلبة الضمنية التي تحوله في النهاية ليصبح فيلماً عن الحياة.

 

 

> على أكثر من صعيد، يمكننا اعتبار فيلم «رحلة الى طوكيو» نوعاً من التلخيص، في الشكل كما في المضمون، ثم في الإثنين معاً كبوتقة واحدة، لمسيرة صاحبه المبدع الياباني الكبير الذي حرص فيه على ان يتبع - وكما حاله دائماً - أسلوبه ولغته السينمائية التي تقوم على تصوير اللقطات ثابتة دائماً، من دون أي تحريك للكاميرا، وغالباً من أسفل بحيث تبدو الشخصيات والأماكن المصورة أعلى من الكاميرا. فإذا أضفنا الى هذا، شغفه بالهندسة والخطوط العمودية، نكون قد التقطنا جانباً أساسياً من جوانب السحر الذي تمارسه سينماه على كثر من السينمائيين الأكثر جدية وموهبة في العالم. غير ما هو أهمّ هنا، في «رحلة الى طوكيو» هو ذلك الخط الإنساني الذي اعتمده أوزو ليقدم موضوعاً قد يبدو للوهلة الأولى شديد العادية: أب وأم من الأرياف خطر لهما ذات يوم أن يزورا أولادهما المقيمين في المدينة بعد غياب طويل. إنهما يقومان معاً بالرحلة في القطار وكلهما لهفة وحماسة. غير انهما ما إن يصلا الى تلك المدينة والى حيث يقيم كل واحد من الأبناء، وكذلك حيث تقيم أرملة ابن لهما كان قتل في الحرب، يصدمهما وإن في صمت شجيّ، كيف ان «الأولاد» يستقبلونهما بكل برودة. من الواضح ان ما من أحد كان يتوقع قدومهما، وربما فقط باستثاء كنّتهما الأرملة التي تكون الوحيدة التي تتعاطف معهما بعض الشيء. مهما يكن، ومن دون ان تكون خيبتهما ظاهرة الى حد المغالاة، يكمل الإثنان رحلتهما ليستقلا القطار بعد ذلك عائدين الى موطنهما، مع إحساس مضاعف بالشيخوخة التي كانا في البداية يتجاهلانها تحت وطأة توقعاتهما قبل الخيبة. في القطار تحس الأم بشيء من التعب. ثم لاحقاً تموت من دون ان تتمكن حتى هذه المرة من مشاهدة الأبناء الذين لن يُخطَروا بما حدث إلا لاحقاً. بل انهم حتى حين يحضرون يبدون متلهفين للعودة كل الى حياته الخاصة. وحدها الكنّة ستكون الأكثر حزناً وفي اللقطة الأخيرة سينصحها حماها بأن تتزوج من جديد. هكذا هي الحياة سيقول لها.

 

 

> كان أوزو واحداً من ثلاثة صنعوا، أواسط القرن العشرين، سمعة السينما اليابانية في العالم كله، وبالتحديد لدى نخبة هواة السينما الجديين في العالم. الآخران هما طبعاً كوروساوا، ميزوغوشي. وعلى رغم ان أوزو كان الأقل فولكلورية بين الثلاثة والأكثر «حداثة» بمعنى ان أفلامه العديدة التي حققها كانت تتماشى، الى حد ما، مع ما كانت تذهب اليه نوعيات معينة من السينما الواقعية الأميركية وربما الأوروبية ايضاً، فإنه اعتُبر، على الدوام، الأكثر يابانية بين الثلاثة، وربما بين السينمائيين اليابانيين جميعاً. وكان هذا هو السبب الذي جعل «اكتشافه» يتأخر في الغرب. ولكن منذ اللحظة التي اكتشفه فيها الأميركيون ثم البريطانيون، وبعدهم الفرنسيون - في شكل متأخر جداً، أي بعد خمسة عشر عاماً من رحيل هذا السينمائي الفذ - صارت سينما اوزو السينما اليابانية المفضلة لدى الهواة، وصارت أفلامه علامات، وأساليبه السينمائية مثلاً يحتذى. ما يدفعنا الى القول إن أوزو ربما كان هو المخرج الوحيد في العالم الذي كانت الحياة الكاملة لأفلامه، حياةً تلت رحيله، هو الذي حين رحل عن عالمنا عام 1963، كان لا يزال شبه مجهول في العالم الخارجي. ولعل اللافت في مسيرة أوزو، طالما أننا نتحدث هنا عن حياة جديدة له، انه كان واحداً من قلة من مخرجين تعمّدوا، بالفعل، ان تكون لأفلامهم أكثر من حياة واحدة، حيث انه في هذا المجال عُرف بكونه قد أعاد في النصف الثاني من مسيرته، تحقيق العديد من الأفلام التي كان حققها خلال النصف الأول من تلك المسيرة. فإذا حققها في المرة الأولى صامتة، صارت في المرة الثانية ناطقة، وإن كانت بالأسود والأبيض أولاً، صارت بعد ذلك ملونة...الخ.

 

 

> واليوم، بعد رحيل أوزو بأكثر من خمسة عقود، تعتبر أفلام له مثل «طعم الساكي» و «رحلة الى طوكيو» و «ربيع متأخر» و «الأعشاب العائمة» بعض أشهر كلاسيكيات السينما العالمية. وهو أمر لم يكن أوزو نفسه يتوقعه. فهو حين كان يحقق سينماه، طوال فترة بلغت ربع قرن من الزمن، كان همه الأساس ان يرسم، من وجهة نظره، صوراً صادقة لمجتمع بلاده، ولصراع الأجيال، وللعلاقة مع الموت ومع المدينة. وتلكم هي على أي حال المواضيع الرئيسية التي طغت على معظم أفلام أوزو.

 

 

> ولد يوسيجورو أوزو في طوكيو في 1903. وحين أرسله أبوه، بائع الأسمدة في حي شعبي بطوكيو، الى كيوتو لكي يتعلم، كان أول ما اكتشفه في تلك المدينة، الأفلام السينمائية التي كانت تعرض بانتظام. وهكذا قرر ان يصبح سينمائياً وراح يرسم كل خططه على ذلك الأساس، حتى تمكن اوائل العشرينات من أن ينخرط في العمل السينمائي فصار مساعداً للمصور ثم مساعداً للمخرج حتى كان العام 1927 حين عهد إليه بتحقيق أول فيلم من إخراجه وكان فيلماً تاريخي الموضوع، وكان في إمكان هذا الفيلم أن يكون أول وآخر فيلم تاريخي في مسيرة أوزو، لكنه لم يكمله. ومن هنا ظلت مسيرته السينمائية كلها مطبوعة بالمواضيع الاجتماعية التي انبعثت أصلاً من تجاربه الحياتية نفسها، ما أضفى عليها طابعاً شخصياً لا شك فيه. أما فيلماه الأولان الحقيقيان: «حصلت على دبلوم ولكن» (1929) و «حياة موظف مكتب» (1930)، فكانا صامتين، ولكن خلف صورهما عرف أوزو كيف يلقي نظرة قاسية وناقدة على المجتمع الذي كان يعيش في ذلك الحين واحدة من أهم فتراته الإنتقالية. وقد عرف أوزو كيف يجعل من سينماه صورة لتلك الفترة. وتألفت تلك السينما في ذلك الحين من أفلام تتحدث في معظمها، عن بؤس طبقة الموظفين، وحالة العاطلين من العمل، وكيف ان أوضاع مثل هؤلاء الناس تقود الى أزمة في القيم الأخلاقية في المجتمع. وهو واصل مساءلته للمجتمع بعد ذلك عبر أفلام جعل شخصياتها الرئيسية شخصيات أطفال، كما في فيلمه الشهير «ولدت ولكن» (1932) الذي كان لا يزال فيه خاضعاً لتأثير نوع معين من السينما الاجتماعية الأميركية (أفلام فرانك كابرا، مثلاً). غير انه سرعان ما بدأ يخوض السينما الناطقة، ليبدأ بعدها بالتخلي عن تأثيرات السينما الغربية عليه، في الوقت الذي راح يبتدع لغة سينمائية خاصة به، ظلت مواكبة لأفلامه حتى أيامه الأخيرة. اما الجديد لديه في تلك الفترة (أواسط سنوات الثلاثين) فكان انتقاله من سينما المكاتب والموظفين، الى سينما القيم العائلية وصراع الأجيال. وهذا الموضوع سيكون على أي حال موضوعه الأثير مذّاك وصاعداً، وبخاصة منذ فيلمه الناطق الأول «الابن الوحيد» (1936). وهو لم يتوقف بعد ذلك عن تحقيق أفلامه واحداً بعد الآخر، وبكثرة، حيث كان يحدث له أحياناً ان يحقق فيلمين او اكثر في العام الواحد. وكان معظم ما يحققه، حتى من دون أن يلقى نجاحاً تجارياً كبيراً، يتحول الى عمل مفضل لدى النقاد. وهكذا على التوالي كانت أفلامه الكبرى: «ربيع متأخر» (1949) الذي شكل مرحلة نهوضه، وسيعيد تحقيقه لاحقاً، ثم «بداية الصيف» (1951) و «غروب في طوكيو» الذي كان واحداً من أكثر أفلامه تشاؤماً، ثم «أعشاب عائمة» و «خريف عائلة كوهايا غاوا» وصولاً بالطبع الى «طعم الساكي» (1962) الذي سيظل - الى جانب «رحلة الى طوكيو» (1953)، أشهر وأجمل أفلامه، ولو لأنه يختصر في حد ذاته كل عوالمه ومواضيعه وأساليبه.