أين ضريبة الدخل من صندوق عجائب "بنما"؟

على الحكومة الإنصات لمطالبات نواب بفتح تحقيق قضائي عاجل في "بنما غيت"، والتي طالت 760 أردنيا يمتلكون شركات "أوف شور" في ملاذات ضريبية آمنة، وذلك حتى يظهر للشعب من منهم متورط في قضايا فساد أو "تهرب" ضريبي.
جاءت المطالبة بعد نشر الأسماء يوم 9 أيار (مايو) الحالي على موقع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، بالتزامن مع رصد استكمالي لزميل أردني لشخصيات سياسية وعامة وردت أسماؤها في أكبر تسريب للوثائق في تاريخ الصحافة الاستقصائية.
عشية تحرك النواب، أعلنت دائرة ضريبة الدخل أنها تحقق في الأسماء والشركات الأردنية، لتحديد الضرر الواقع على الخزينة جراء عدم تسديد مستحقات الضريبة، إن ثبت وجود عمليات تهرب ضريبي، بموجب قانون ضريبة الدخل الأخير.
قبل ذلك، قال النائب العام لضريبة الدخل د. وليد البواعنة، في لقاء لمنظمة الشفافية الدولية، إنه "لو رفعت السرية المصرفية عن الأردنيين من أصحاب شركات الـ"أوف شور"، لتمكنا من زيادة ضريبة الدخل بنسبة تتراوح بين 50 % و100 %".
فقط للتذكير، الأردنيون الواردة أسماؤهم في "أوراق بنما" يقيمون على أراضي المملكة الأردنية، ويحملون جنسيتها، ويساهمون في قرابة 3400 شركة مسجلة في 12 ملاذا ضريبيا؛ من أبرزها جزر العذراء البريطانية برأسمال مصرح به يبلغ 180 مليون دولار. والفترة الزمنية لهذا الاستثمار تمتد بين العامين 1977 و2015.
إذن، تؤشر التحركات الأخيرة، وإن جاءت متأخرة، إلى وجود رغبة رسمية في تبيان الحقيقة. وفي ذلك ترسيخ لمبدأ فصل السلطات ودور صحافة الاستقصاء، بخاصة حين يتعلق الأمر بمحاسبة مسؤولين سابقين أدوا القسم الدستوري لدى تعيينهم في مناصب قيادية، ويفترض بهم الامتثال لقانون الكسب غير المشروع، الذي يلزم أكثر من 100 مسؤول في مراكز قيادية بتقديم ظرف مغلق يتضمن لائحة بأملاكهم وأملاك عائلاتهم. ويفتح هذا المغلف عندما تطلب المحكمة ذلك في حال وجود شبهة فساد -لا سمح الله- أثناء أو بعد توليه منصبه.
استعداد ضريبة الدخل المبدئي في الأردن يفترض أن يسير على خطى دوائر ضريبة الدخل بعد التسونامي الذي ضرب العالم. وهذا متوقع من أي دولة تقدّم نفسها على أنها دولة قانون ومؤسسات، مع فارق أن الإعلام الغربي ضغط وأجبر رئيس وزراء آيسلندا على الاستقالة، كما أجبر رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، على كشف سجله الضريبي للسنوات الخمس الماضية. في المقابل، تغاضت غالبية المؤسسات الإعلامية التقليدية والجديدة في العالم العربي عن فتح ملفات الشخصيات التي انكشفت.
في حال نفذت عملية التحقق الرسمية بمهنية، ستساهم النتيجة في كشف أي من تلك الشخصيات استخدمت هذا النمط من الأنظمة المالية الخارجية بصورة مشروعة أو استغلته لتمرير عمليات "تهرب ضريبي" أو في حالات فساد. وعليه تحمّل نتيجة أفعالها من خلال المحاسبة.
فالداني والقاصي بات يعرف أن ليس كل من يمتطي الـ"أوف شور" يخفي أعمالا غير مشروعة، لأنها منصات مشروعة وقانونية. لكنْ ثمة رجال أعمال ومسؤولون يلجأون عادة لتأسيس شركات في الملاذات الضريبية لعدة أسباب، منها: إخفاء أموال في شركات خارج بلدانهم؛ فتح حسابات بنكية وتحويل الأموال إليها من دون التعرض لمساءلة هيئات مكافحة غسل الأموال؛ الفوز بعقود في بلدانهم الأصلية بأسماء شركات "أوف شور" على أنها شركات أجنبية، والأخطر من ذلك توقيع عقود استشارية ووهمية بين شركاتهم الأصلية في بلدانهم وتلك المسجلة في الملاذات الضريبية، ثم تحويل أموال لشركات الـ"أوف شور" على أنها قيمة العقود، ما يستتبع ذلك تخفيض ضريبة الأرباح في بلدانهم. يوازي هذه المسارب فسادا شراء شركات تسمى "شيلف كومباني"، أي مسجلة بعمر طويل في الـ"أوف شور" لدخول عطاءات حكومية في بلدانهم باعتبارها شركات معمرة (صاحبة خبرة وتاريخ). وهناك من يسجل شركته في الـ"أوف شور" كمساهم في شركته الأصلية في بلده، تحوطا من أي قرار قضائي بالحجز على أمواله، ذلك أن حصة شركة الـ"أوف شور" تظل خارج قرار الحجز؛ لأنها تعد مساهما أجنبيا، وبالتالي يبقى جزء من أمواله في الخارج في حال فراره.
لكن عملية التحقق ممن مارسوا أعمالا غير مشروعة، تتطلب وقتا وجهدا وتنسيقا مع سائر حكومات العالم، بما فيه القطاع المصرفي والشرطة الدولية "الإنتربول".
أردنيا، ستتكشف أيضا عيوب سابقة، منها عدم تعاون الجهات المسؤولة مع دائرة ضريبة الدخل، والبنك المركزي، ودائرة مراقبة الشركات، للحؤول دون نقل أموال خارج المملكة للاستثمار من دون دفع الضريبة المستحقة عليها عن دخلها الصافي. الأنكى أن دائرة ضريبة الدخل لا تملك أدوات عملية وقانونية للتحقق من جنسية رؤوس الأموال الأردنية المستثمرة في الخارج؛ ذلك أن البنك المركزي يلتزم بند السرية المصرفية، بعدم إعطاء معلومات عن عملاء البنوك لضريبة الدخل والمبيعات.
كما أن الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، وصحيفة "زود دويتشه تسايتنغ" التي تلقت معلوماتها من شخص يعرف بـ"جون دو"، وأكثر من 330 صحفيا عملوا في مشروع "أوراق بنما"، أقسموا اليمين بأنهم لن يزودوا الجهات القضائية أو الضريبية بملفات عن أعمال الشركات والأشخاص الواردة في "أوراق بنما" الخاصة بتسريبات قاعدة عملاء شركة "موساك فونيسكا".
الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصايين يبرر أسباب عدم التعاون مع الجهات الرسمية لمتابعة تداعيات "أوراق بنما" بالقول إنه بإمكان سلطات الدول التقاط الخيط من حيث انتهى إليه الكشف الصحفي؛ "نحن لسنا ذراعا لتطبيق القانون ولسنا عملاء للحكومات، بل مؤسسة مستقلة تمارس مهنة الصحافة، تعمل على خدمة أعضائها وتجمعات الصحافة الاستقصائية حول العالم والعامة (الناس)"، حسبما ذكر الاتحاد على موقعه الالكتروني.
بدوره، يعبر رئيس تحرير صحيفة "زوددويتشه تسايتنغ"، فولفغانغ كراخ، عن تعاطفه مع حاجة الادعاء العام ومحققي الضرائب للحصول على هذه الوثائق التفصيلية، لأنها ستكشف "حيثيات مثيرة للشكوك. وقد توفر أدلة قوية للجرم ومتابعة ومعاقبة هذه الجرائم ما يعد هدفا مشروعا لكل حكومة". لكنه يستطرد: "بالنسبة لصحيفتنا، هناك أمر يحمل أهمية كبيرة وهو الحق القانوني المشروع في حماية مصادرنا. فمصدرنا زودنا بهذه المعلومات لغايات استخدامها في أعمال صحفية وبشرط أن نلتزم بحماية هوية المصدر. لو لم نقم بذلك، فإن حياة هذا الشخص ستكون في خطر". وتفيد الصحيفة في ردّها على سؤال لكاتبة هذا المقال بـ"أنها ستنقل أي طلب يصلها لـ"جون دو" إذا كان بإمكانهم أن يقوموا بذلك بطريقة آمنة ومضمونة".
أما جون دو، فيبرر -في مقال على موقع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين- "تسريبات العصر"، ويبدي استعداده لتزويد الجهات الحكومية بأي معلومة تحتاجها لتقفي أثر من وردت أسماؤهم في سجل الأوراق. فهو على يقين بأن: "آلاف الأحكام القضائية ستصدر بناء على المعلومات التي تحتويها أوراق بنما". لكنه يطالب بمنظومة "حماية" أفضل لمن يسمون "المبلغين" أو "مطلقي صافرات الإنذار" من المساءلة القانونية، مستشهدا بما وقع لمسربي معلومات حوكموا بعد أن كشفوا "تجاوزات"، ودُمرت حياتهم، بحسب قوانين أميركا وأوروبا. وأشار إلى مآلات إدوارد سنودن وبرادلي برنكنفيلد وانطوان ديلتور.
فسنودن يلوذ الآن بروسيا من تهمة "التجسس" بعد أن سرّب معلومات مصنفة في ملفات وكالة الأمن القومي الأميركية على أنها "سرية للغاية". وبرنكنفيلد كشف نشاطات تجارية غير مشروعة في المصرف السويسري "كريدي سويس"، الذي كان يعمل فيه. لكنه كوفئ العام 2009 بالسجن 40 شهرا بتهمة التغافل عن إشعار السلطات بكامل تفاصيل تلك الممارسات. أما ديلتور، فيحاكم اليوم بتهمة تزويد الصحافة بمعلومات عن كيفية قيام دوقية لوكسمبورغ بمنح شركات متعددة الجنسيات صفقات ضريبية.
من المستحيل اليوم ضمان ما يريده "جون دو" لكي يبدي تعاونا مع السلطات الضريبية والقضائية حول العالم، والتي تضغط على الصحفيين بشتّى الوسائل الممكنة. في الأثناء، يستمر الجدال حول دوافع "جون دو" والصحفيين، وعما إذا كان ما قاموا به يخرق قواعد أخلاقيات المهنة عبر "التشهير" بمشاهير العالم من دون التأكد من مشروعية حساباتهم، إضافة إلى خرق خصوصيتهم، بخاصة من ولد منهم وبفمه ملعقة من ذهب.
على الجانب الآخر، كشفت "أوراق بنما" مرة أخرى أن الشخصيات العامة يفترض أن تعمل في العلن وتلتزم بالقانون، لأنها قدوة في مجتمعاتها. كما أن من حق دافع الضريبة الذي يمول رواتب المسؤولين التساؤل: "من أين لك هذا؟"، ومن واجب الصحفيين الاستقصائيين أن يشكروا المبلّغ المجهول "جون دو" الذي يصر على أنه لم يكن يوما موظفا في حكومة أو جهاز استخبارات، وإنما تحرك بسبب شعوره بالهوّة الشاسعة للمداخيل حول العالم، وإحجام المتنفذين عن ردم تلك الهوة رغم خطاباتهم الرنّانة وتحليلاتهم المبنية على أرقام وبعض الإضرابات.
فأوراق بنما توفر إجابة صريحة في مواجهة الفساد الذي يخترق الحواجز، حسبما يرى "جون دو"، لافتا إلى أن أول من يخرق القانون هي شركات تعلن التزامها بالقانون لتدير أموال غيرها بعد أن ساهمت في الضغط على أصحاب النفوذ لسن تعليمات وقوانين تسمح لها بقوننة أعمال لخدمة من يريد كسر القانون وممارسة الجريمة.
كما تطلق الأوراق جدالا دوليا حول حماية المبلغين -داخل المؤسسات والشركات وخارجها- من نقمة الحكومات والجهات القضائية، وضرورة وضع حد لما يسمىّ بسوء استخدام سجلات الشركات أينما وجدت، من خلال إتاحة بياناتها للجميع. وكذلك وقف الحصانة المالية على الجزر التي توفر ملاذات ضريبية.