نهاية البداية أم بداية النهاية؟


لم أحفل بما سبق لي أن اطلعت عليه من كتب متفرقة ودراسات تحليلية، ممهورة بأسماء كتاب جادين، تتوقع زوال الدولة التي قامت بقوة الحديد والنار، في وقت غير بعيد. وفيما يشبه زف البشرى السارة لكل من يعنيهم الأمر، حدد بعض أصحاب هذه الرؤية الاستشرافية الطافحة بالأمل، أجلاً زمنياً قالوا إن لم يشهده معمّرو الجيل الذي عاش يوم النكبة، فإن أبناءهم وأحفادهم سيعيشون هذا الحدث الآسر لعقول العرب جميعاً، ولشغاف قلوب اللاجئين خصوصاً.

في الواقع، كنت أكتفي بقراءة تلك العناوين فقط، لتدارك الوقوع في بحر الأمنيات الزائفة، ودرء مزيد من خيبات الأمل، فضلاً عن عدم اقتناعي بحدوث مثل هذه المعجزة في زمن ولت فيه المعجزات. وبالتالي، لم أكلف نفسي قراءة مثل هذه النبوءات الباعثة على التفاؤل الزائد عن الحد، ولتجنب صدمة اليقظة المباغتة مما تثيره هذه الأمنية العصية من حلم هوى داخلي يحسّن المزاج مؤقتاً، ويداعب خيالات المعوّلين على الأقدار التاريخية وحدها، لتحقيق ما تعجز عن صنعه الإرادات.
غير أنه لم يكن في وسعي الاستخفاف برؤية صادرة، مؤخراً، عن مرجع أمني إسرائيلي عتيد، هو يوفال ديسكن؛ الرئيس السابق لجهاز "الشاباك"، الذي رأى أن التحوّلات الأخيرة في المشهد الداخلي الإسرائيلي -وكانت ذروتها قد تمثلت في إسناد منصب وزير الدفاع لأفيغدور ليبرمان، أحد عتاة اليمين الصهيوني وأشدهم رعونة- نذير شؤم دال على خواء الزعامة، وفقدان الصواب لدى عقل الدولة التي تعيش على حد سيفها وسط بحر من الأعداء.
ففي تعقيب له على هذا الحدث الدرامي، الموصوف من جانب النخبة السياسية الإسرائيلية كزلزال سياسي، رسم ديسكن صورة قاتمة لمستقبل إسرائيل، التي بات فيها الشباب -بحسبه- يبحثون عن جنسيات بلدان أجدادهم وآبائهم للهجرة من جديد، وزاد فيها الشرخ بين اليهود العلمانيين والمتدينين، وبين "الأشكناز" و"السفارديم"، وتصاعد الفساد، وانكسر ميزان العدل، وعمّت مظاهر الركود الاقتصادي، وتفاقمت العنصرية ضد العرب والمهاجرين واللاجئين.
إلا أن ما يشغل بال رئيس "الشاباك" الأسبق، على ما يبدو، كان أكثر من منح شخص غير مؤهل مثل ليبرمان، سلطة اتخاذ القرار في الدائرتين الأكثر أهمية؛ الجيش الإسرائيلي والجهاز الذي يدير الاحتلال، في إشارة ذات مغزى إلى أن الدولة العبرية شاخت وهي في الثامنة والستين من عمرها، وأنها أضاعت البوصلة. الأمر الذي يعني أن إسرائيل دخلت في خريفها، وأن قوتها العسكرية لن تكون كافية لتجنيبها المصير المحتوم.
وإذا كان للمقاربة من الخارج، بعين ترى في المشهد الإسرائيلي المتحول نحو مزيد الفاشية والعنصرية ضرباً من ضروب الانتحار الذاتي، فلن تفوت المتابع حقيقة أن الدولة العبرية التي سجلت آخر انتصار حاسم لها العام 1967، وأسكرها كثيراً ذلك النصر الكاسح، لم تتمكن منذ ذلك الوقت من الفوز في أي من المعارك اللاحقة بصورة كاملة. غير أن إخفاقاتها الأشد أهمية، تمثلت في خسارتها لصورة الضحية الأبدية، وللتعاطف الغربي مع رواية دولة الناجين من المحرقة النازية الفتية المحاطة بالأعداء.
فإسرائيل هي اليوم آخر دولة استعمارية في عصر ما بعد نهاية الاستعمار، وهي "الديمقراطية الوحيدة" التي تتحكم بمصير شعب آخر بالقوة العسكرية المجردة؛ فلا تقر بقانون دولي ولا بشرعية دولية. ولم يعد لها من حليف يعتد به سوى الولايات المتحدة الأميركية، حتى إن صخرة وجودها هذه صارت، مؤخراً، تضيق ذرعاً بصلف ربيبتها المدللة الصغيرة.
وأحسب أنه حين يتساءل ديسكن، وهو العارف بأسرار قدس الأقداس المحصن في قاعة تحت أرضية، عما إذا كانت المؤشرات التي في حوزته، ولم يفصح عنها جميعاً لأسباب مفهومة، تشكل نذير شؤم أشد مما يبدو، فمعنى ذلك أن لدى هذا الركن الركين في بيت الأمن الإسرائيلي، معطيات أخرى تحمله على إبداء كل هذا التطيّر غير المسبوق، وبالتالي فإن الأمر جد خطير، ينبغي أخذه على محمل الجد هذه المرة، وعقد الرهان على تحققه، ولو بعد حين، طالما أن ديسكن يقول إن مؤشراته تسوّغ له التساؤل: هل هذه هي نهاية البداية، أم بداية نهاية الدولة الإسرائيلية؟