الدين والسياسة وموقع الإسلام


 

يتمتع الجدال والسجال الدائر حول إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام، بحضور كثيف في صفوف النخب الفكرية والرأي العام في العالم الإسلامي، وغيره من العوالم, لما تمثله هذه العلاقة من إشكالية باعتبارها أحد أهم المسائل الشائكة معرفيا في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية, فقد غلب على دراسة ومعالجة هذه الإشكالية جملة من الأطروحات الفكرية المقولبة الجاهزة تمت صياغتها في مجال تطور العلوم الاجتماعية في الغرب, حيث شكلت القراءة المركزية الغربية مصدرا للاضطراب، والبلبلة الفكرية لدى النخب العربية الإسلامية بسبب هيمنة النموذج الغربي، وواقع السيطرة والهيمنة كنتيجة لفائض الإنتاج المعرفي. ولا يخفى أن المجادلات حول علاقة الديني بالسياسي تأثرت بخلفيات أيديولوجية، وسياسية متباينة عملت على سيادة وخدمة مشاريع استعمارية حضارية مختلفة.
لعل أكثر المفاهيم رواجا واستخداما في بحث العلاقة بين الديني والسياسي على صعيد النظرية والمقاربة الاجتماعية التاريخية هو مفهوم «المصلحة الدينية»، الذي يسمح بالتعرف على الدوافع التي تحرك وتوجه سلوك رجال الدين, وتحديد مواقفهم من الدولة ورجالها, وتعتبر مقاربة عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو البنيوية التوليدية, من أهم المقاربات بسبب شموليتها وتماسكها وانتشارها الواسع لدى جيل جديد من الاجتماعيين المعاصرين, وبسبب اشتراكها مع الاتجاهات الأخرى التي تستند إلى الدراسة الموضوعانية والخارجية لمجمل الظواهر والقوى الدينية بالإضافة إلى المقاربة التي تعتمد على تفهم دوافع الفاعلين. ينطلق بورديو في استخدامه لمقولة المصلحة من مسلمة سوسيولوجية تنص على « مبدأ السبب الكافي «، ويعني أن الفاعلين لا يتصرفون بدون سبب, وهذا السبب هو المصلحة, كما يعتمد بورديو على ضرورة معرفية تنص على «مبدأ القطيعة» مع الرؤية السحرية والخادعة والساذجة للسلوكات البشرية وإخضاعها لنمط الفهم والتفسير العلمي, وقد عمل بورديو على تطوير نظريته في المصلحة الدينية من خلال قراءته التوفيقية لإسهامات كارل ماركس وماكس فيبر واميل دوركايم, ويعرّف المصلحة الدينية بأنها الفائدة التي تجدها جماعة أو طبقة في نموذج محدد من الممارسة أو الاعتقاد الديني وبالخصوص في إنتاج وإعادة إنتاج ونشر واستهلاك نموذج معين من خيرات الخلاص.
لا يكتفي بورديو بهذه الصيغة الفيبرية، بل يضيف ويقرر مضمونا استعاره من الفكر الماركسي قوامه الربط بين المصلحة الدينية والوظيفة الاجتماعية التي تتحدد في تبرير الواقع الاجتماعي القائم على التفاوت الطبقي، ويتجاهل ما أثبته دور كايم من دور الدين في إنتاج مثل وقيم تجسد الضمير الجمعي وتحقق التماسك والدمج الاجتماعي وكذلك وظيفة تأسيس الانتماء إلى جماعة ذات هوية ثقافية واحدة, كما يتجاهل وظيفة الدين الأساسية، التي تعمل على تحقيق الاطمئنان والأمان النفسي من خلال الإجابة الوجودية المقلقة.
عمل بورديو على تطوير مقاربته للحقل الديني في السبعينيات والثمانينيات، وذلك من خلال استبدال القراءة السياسية بنظرية عامة لاقتصاد الممارسات، واقترح علما قادرا على معالجة كل الممارسات بما فيها الرمزية والتي تريد أن تتعالى على المصلحة وعلى الاقتصاد, بوصفها تخضع لمنطق الاقتصادي وتتوجه نحو الربح المادي او الرمزي, ويرى أنه ما من فعل يصدر إلا وهناك مصلحة في فعله، حتى لو توجه نحو الخير والفضيلة, وإذا كنا نوافق على رفض اعتباطية الأفعال فإننا لا يمكن أن نوافق على اعتبار مسلمته النفعية خاصية عامة، وكونية بسبب عجزها عن تفسير جملة الأفعال التي تحركها بواعث الإيمان والعقيدة وأخلاق الواجب والإيثار وروح التضحية, فلا يصح اعتبار أفعال الاعتقاد في سبيل الله وراحة الضمير مجرد آليات خداع للنفس والآخر أو شكلا من أشكال النفاق الاجتماعي كما يعتقد بورديو, فلا يمكن إخضاع الدوافع الإيمانية إلى مفاهيم الربح الرمزي و» الرأسمال الرمزي «.
المفاهيم السابقة مقترحة أصلا لتحليل الممارسات والرهانات الدنيوية, ولا تفيد في تحليل سلوك النخب الدينية في التاريخ الإسلامي باستخدام فرضيته حول تحول الرساميل, من الديني إلى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي, مع الإقرار بظاهرة استخدام المعرفة والمنزلة الدينية في التنافس السياسي أو جمع الثروة, إلا أن هذا الإقرار والاعتراف بهذا التداخل السلوكي لا يلغي وجود علماء وفقهاء وزهاد كرسوا حياتهم في سبيل الله وخدمة الناس؛ فالتضحية بالمال والنفس ضد الظلم والاستبداد والطغيان، والفساد لا يمكن أن تفسر بمسلمة النفعية أو فرضية تحول الرساميل, ولا تصمد مقولات الشرعية العلمية للموضوعية بحجج النفاق، وإهدار فهم أفعال العلماء كحقيقة ذاتية ذلك أن أهم ما يميز الممارسة الإسلامية هو ربط النظر بالعمل والعقل بالغيب.
إن الخلل المتعلق بالجانب التفهمي النظري لدوافع الفاعلين في الإسلام، لا يقل عن الخلل الناتج عن المشكلات المطروحة في فهم علاقة المجال الديني بالمجال السياسي, فقد استقر في وعي دارسي العلوم الاجتماعية منذ زمن أن الدين عبارة عن نسق رمزي ينتج عن دخول الإنسان في علاقة مع قوة متعالية محورها إعطاء معنى لوجود الإنسان بالكون, أما السياسة فتمثل نسقا من علاقات القوة المادية، ينظم التعايش والنزاع والهيمنة.
تبلورت نظرية الفصل ورسم الحدود بين المجالات الدينية والسياسية، في أحضان الرؤية الوضعية في العلوم الاجتماعية, وقد انتقد هذا الفصل جملة من العلماء الذين أكدوا على أن التعايش بين البشر لا ينفصل عن تجربتهم للعالم المرئي واللامرئي، ذلك أن تبلور المجتمع السياسي يتضمن سؤالا محوريا حول الكون والكينونة, كما أن التداخل بين الديني والسياسي قد صبغ التجربة الإنسانية منذ القدم، قبل أن تضعه الحداثة الغربية موضع التساؤل، كما أكد على ذلك جورج بالاندييه في دراسته حول علاقة الدين بالسلطة، وكون المقدس حاضر باستمرار في قلب السلطة, وهو ما يزعزع الثقة بالرؤى الأحادية والقراءات اللاتاريخية، التي تسربلت بدعوة كونية مزعومة, الأمر الذي ينسحب على جملة القراءات الحداثية للإسلام، التي تميزت بالاضطراب والفوضى في قراءة الظاهرة الإسلامية ويمثل محمد اركون نموذجا للخلط بين المجالين الديني والسياسي في دراسته حول موضوع العلمنة في الإسلام، ويتضح هذا الخلط لدى أنصار العلمانية الصلبة، كما هو الحال عند عزيز العظمة, الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في دراسة المجالين الديني والسياسي في الإسلام.